منارات حسينيَّة

ريبورتاج 2023/07/31
...

 جواد علي كسار


(1)

بعد غروب الشمس من يوم العاشر من المحرم سنة 61هـ كان كلّ شيء قد انتهى، ولا شيء في ساحة المعركة سوى أجساد مقطعة الرؤوس، وليل ثقيل شرع يهطل بسواده على الأجواء.

تخرج زينب بنت علي بن أبي طالب أخت الحسين إلى الساحة، تمدّ يديها وتبسلهما تحت جسد سيّد الشهداء، ثمّ ترفع طرفها إلى السماء، وهي تقول: «اللهم تقبل منا هذا القربان».

كان الإمام زين العابدين علي بن الحسين السجاد هو الوحيد الذي وفرته سيوف الحقد الأموي من رجال آل البيت، فالعلّة ما زالت تأخذ بجسده من كلّ جانب، زاد فيها معاناة الواقعة الرهيبة، ومنظر هذه الليلة الموجع، حيث الأجساد الموّزعة بلا رؤوس.

دنت منه عمته زينب ربما بعد أن كانت قد رجعت من عند جسد أخيها الحسين، فقالت لأبن أخيها: «مالي أراك تجود بنفسك يا ابن أخي، فوا الله أن هذا العهد من الله، ولقد أخذ ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماء، أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطعة، والجسوم المضرّجة فيوارونها، وينصبون بهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء، لا يدرس أثره، ولا يُمحى رسمه على مرور الليالي والأيام.

وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه، فلا يزداد أثره إلا علواً.


(2)

نقفل عائدين إلى الوراء عبر موجات الزمن لندخل مدينة الكوفة بعد يوم أو أكثر من واقعة عام 61 للهجرة.

ننظر في شوارع المدينة فنرى موكب آل محمد صلى الله عليه وآله، وقد اخترق جموع أهل الكوفة متجهاً إلى قصر الإمارة. الناس ينظرون ويبكون لما حلَّ بالبيت النبوي الكريم، فحالما دخل الموكب المدينة، خرج أهلها فزعين إلى الشوارع والطرقات وهم بين متسائل لا يدري لمن السبايا وعارف بهول المصيبة، يكفكف أدمعاً ويضمر ندماً، ويحسّ بعذاب الضمير ولوعة الخذلان.

لا علينا فبعد قليل ينهمر السيل وتنحدر سليلة الإباء زينب بنت الإمام أمير المؤمنين لتخطب الجمع، وتضعهم أمام هول الواقعة. وإنما دعونا نواصل المسير لندخل معاً إلى مسجد الكوفة، فها هو الحاكم الأموي والي يزيد في الكوفة عبيد الله بن زياد، يخطب الناس، ويبلّغ بقتل الحسين وانتصار يزيد، ثمّ يقول: الحمد لله الذي أظهر الحقّ وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه... ثمّ يشتم الحسين بن بنت رسول الله، وينال من أبيه علي بن أبي طالب على منبر المسجد 

الكبير!

كانت كلمات التعريض والشتيمة هذه نذيراً لحادث فذّ سينطلق بعد قليل مقوّضاً نشوة النصر لدى ابن زياد.

في اللحظة التي ينتهي فيها ابن زياد من كلمات التعريض والشتيمة بالحسين بن بنت رسول الله وبأبيه الوصي أمير المؤمنين، ينبري من وسط الجموع عبد الله بن عفيف الأزدي، ليقف بجرأة الرجال يتحدّى الصلف والغرور، ويمزق أجواء الإرهاب التي فرضها السيف والسوط، فيواجه عبيد الله بن زياد، ويردّ عليه رداً عنيفاً، كان مما قاله فيه: تقتل أولاد النبيين وتقوم على المنبر مقام الصدّيقين!

ثمّ نال منه ومن أبيه ومن يزيد وأبيه.

وقعت كلمات ابن عفيف الأزدي على ابن زياد وقع الصاعقة، وهو متسربل بكبرياء الإمارة ونشوة النصر الأثيم، فلم يجد ملاذاً للخروج من هذا الموقف المخزي الصعب إلا الأمر بقتل الأزدي الشجاع. بيدَ أن أمره اصطدم برجال من الأزد يحيلون بينه وبين عبد الله بن عفيف.

لم يهدأ غضب الحاكم الأموي وحقده، بل لاذَ بالغدر وانتظر ساعة الليل وهجعة العيون، فبعث بمجموعة من جلاوزته، لتُغير على الأزديّ وتخرجه من بيته.

ثمّ قُتل وصُلب فراح شهيداً يردّد كلمة الحقّ، ويجبه بها وجه الطغاة.


(3)

ربما كان موقف عبد الله بن عفيف الأزدي هو الموقف الأول الذي واجه السلطة اليزيدية بعد استشهاد الحسين. ومن المؤكد أن هذا الموقف جاء سريعاً حين لم تكن أجساد شهداء الطف قد وُوريت بعد.

الدرس الأهمّ في هذا الموقف المتحدّي الشجاع، أن البذرة التي بذرها ابن بنت رسول الله وسقاها بدمه الطاهرة بدأت تعطي أُكلها كلّ حين، ليس على صعيد مواقف فردية وتحرّكات جزئية محدودة وحسب، وإنما على شكل هزّات عنيفة وشاملة وثورات شعبية واسعة، كانت ثمرتها الأولى أن تسقط دولة بني أمية بعد سبعة عقود من استشهاد الحسين في كربلاء.

مشهد بطولي عظيم ذاك الذي وقفه عبد الله بن عفيف الأزدي يعيد إلى ذاكرتنا وإلى وعي الكوفيين بالذات، موقفاً آخر كانت شهدته الكوفة قبل هذا الموقف بأسابيع قليلة.

ملخص ذلك الموقف أن الحسين بعث بكتاب إلى بعض شيعته في الكوفة بيد قيس بن مسهّر الصيداوي. سار قيس بالكتاب إلى أن وصل القادسية، وهي من المنازل المؤدّية إلى الكوفة، وكان عليها من شرطة ابن زياد الحصين بن تميم، فأراد أن يفتش قيساً فأخرج رسول الحسين الكتاب ومزقه، فحمله الحصين إلى ابن زياد حيث دار بينهما الحوار التالي:

ابن زياد: من أنت؟

قيس: أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

ابن زياد: فلماذا مزقت الكتاب؟

قيس: لئلا تعلم ما فيه!

ابن زياد: ومّمن الكتاب وإلى من؟

قيس: من الحسين إلى جماعة من الكوفة لا أعرف أسماءهم.

غضب ابن زياد على عادة الطغاة التافهين الذين تستفزهم مواقف الإباء والكرامة، فقال: والله لا تفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم، أو تصعد المنبر فتسبّ الحسين بن علي وأباه وأخاه وإلا قطعتك إرباً إرباً.

أجاب قيس: إما القوم فلا أخبرك بأسمائهم. ثمّ تظاهر بالطاعة لما يطلبه ابن زياد من السبّ.

صعد المنبر بقلب راسخ في إيمانه، وكأننا به وقد ألقى على الجمع المحتشد في القصر، نظرة وابتسامة حيث الكلّ يرمقه ببصره.

حمَد الله وأثنى عليه، وقال: أيها الناس، إن الحسين بن علي من خير خلق الله، وابن فاطمة بنت رسول الله، وأنا رسوله إليكم، وقد خلفته بالحاجر فأجيبوه وانصروه، وأن الكذاب ابن الكذاب هو عبيد الله بن زياد فالعنوه والعنوا

أباه.

مشهد بطولي خارق، ملؤه تحدّ بعث في نفس الطاغية التفاهة والصِغار، فأمر بقيس أن يُلقى حياً من أعلى سور القصر، فقذفت به الجلاوزة ومضى إلى ربّه شهيداً على سرّ الحسين.


(4)

يقول الشاعر في إباء سيد الشهداء وفدائه:

أعظِم به بطلاً لم يُعط متّضعاً يد الصغار وأعطى دونها الرأسا

كذلك الحرّ يستعدي الممات على عيش الدنية إذلالاً وإركاسا

أكرم به خلّة كانت لنا نهجاً ثمّ استمرت على الأيام نبراسا