السجاد {ع} وبلاغة الخطاب

ريبورتاج 2023/08/01
...

 وسام الفرطوسي
حرمٌ آمنٌ مبارك
من كلام للإمام السجاد (عليه السلام) يذكر فيه أرض كربلاء قال (ع): اتخذ الله أرض كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أنْ يخلق الله أرض الكعبة ويتخذها حرماً بأربعة وعشرين ألف عام، وإنه إذا زلزل الله تعالى الأرض وسيرها، رفعت كما هي بتربتها نورانية صافية، فجعلت في أفضل روضة من رياض الجنة، وأفضل مسكن في الجنة، لا يسكنها إلا النبيون والمرسلون، وأنها لتزهر بين رياض الجنة، كما يزهر الكوكب الدري بين الكواكب لأهل الأرض، يغشي نورها أبصار أهل الجنة، وهي تنادي أنا أرض الله المقدسة، الطيبة المباركة، التي تضمنت سيد الشهداء، وسيد شباب أهل الجنة.
وهذا الكلام دليلٌ على أفضلية كربلاء المقدسة على مكة المشرفة، وأشرفيتها عليها، وأشار إلى هذه المزية السيد مهدي بحر العلوم (رحمه الله) في منظومته القيمة حيث قال: ومن حديث كربلاء والكعبة لكربلاء بان علو الرتبة.

يا بقية جدي وأبي وأخوتي
يقول الإمام السجاد عليه السلام في ذكر “واقعة الطف المؤلمة” إنه لما أصابنا بالطف ما أصابنا، وقتل أبي (عليه السلام)، وقتل من كان معه من ولده وإخوته وسائر أهله، وحملت حرمه ونساؤه على الأقتاب، يراد بنا الكوفة، فجعلت أنظر إليهم صرعى ولم يواروا، فعظم ذلك في صدري، واشتد لما أرى منهم قلقي، فكادت نفسي تخرج، وتبينت ذلك مني عمتي زينب الكبرى بنت علي (عليه السلام).
فقالت: ما لي أراك تجود بنفسك، يا بقية جدي وأبي وأخوتي؟
فقلت: وكيف لا أجزع وأهلع، وقد أرى سيدي وإخوتي وعمومتي، وولد عمتي وأهلي مصرعين بدمائهم، مرملين بالعرى، مسلبين لا يكفنون ولا يوارون، ولا يعرج عليهم أحد، ولا يقربهم بشر، كأنهم أهل بيت من الديلم والخزر؟
فقالت: لا يجزعنك ما ترى، فوالله إنَّ ذلك لعهد من رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى جدك وأبيك
وعمك.
ثم أخبر الإمام (عليه السلام) لزائدة بن قدامة - راوي الخبر - الحديث الطويل، ناقلاً عن عمته زينب الكبرى (عليها السلام). قال زائدة: قال الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) بعد أنْ حدثني بهذا الحديث:
خذه إليك، أما لو ضربت في طلبه آباط الإبل حولاً لكان قليلاً.

في أسر بني أمية
ومن كلام له (عليه السلام) كان يقوله في أسر بني أمية له (أيها الناس، إن كل صمت ليس فيه فكر فهو عي، وكل كلام ليس فيه ذكر فهو هباء، ألا وإن الله تعالى أكرم أقواماً بآبائهم، فحفظ الأبناء بالآباء لقوله تعالى: (وكان أبوهما صلحا) فأكرمهما، ونحن والله عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأكرمونا لأجل رسول الله؛ لأنَّ جدي رسول الله كان يقول في منبره: “احفظوني في عترتي، وأهل بيتي، فمن حفظني حفظه الله، ومن آذاني فعليه لعنة الله. ألا لعنة الله على من آذاني فيهم”. حتى قالها ثلاث مرات.
ونحن والله أهل بيت أذهب الله عنا الرجس، والفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونحن والله أهل بيت اختار الله لنا الآخرة، وزوى عنا الدنيا ولذاتها، ولم يمتعنا بلذاتها.
ومن كلام له (ع) في بيان ما جرى عليه وعلى بقية العترة من المصائب والهوان (بعد ما قال له منهال: كيف أصبحت يا بن رسول الله؟) فقال (عليه السلام): (كيف حال من أصبح وقد قتل أبوه، وقلَّ ناصره؟ وينظر إلى حرم من حوله أسارى، قد فقدوا الستر والغطاء، وقد أعدموا الكافل والحمى، فما تراني إلا أسيراً ذليلاً، قد عدمت الناصر والكفيل، قد كسيت أنا وأهل بيتي ثياب الأسى، وقد حرمت علينا جديد العرى، فإنْ تسأل فها أنا كما ترى، قد شمتت فينا الأعداء، ونترقب الموت صباحاً ومساءً). ثم قال (ع): ((قد أصبحت العرب تفتخر على العجم بأنَّ محمداً (ص) منهم، وأصبحت قريش تفتخر على سائر الناس، بأنَّ محمداً (ص) منهم، ونحن أهل بيته أصبحنا مقتولين مظلومين، قد حلت بنا الرزايا، نساق سبايا، ونجلب هدايا، كأنَّ حسبنا من أسقط الحسب، ونسبنا من أرذل النسب، كأنْ لم نكن على هام المجد رقينا، وعلى بساط جليل سعينا، وأصبح الملك ليزيد - لعنه الله - وجنوده، وأصبحت بنو المصطفى (ص)، من أدنى عبيده)).

الاحتجاج على أهل الكوفة
ومن خطبة له (ع) (في الإحتجاج على أهل الكوفة، وفيها بيان غدرهم) قال حذيم بن شريك الأسدي: خرج زين العابدين (ع) إلى الناس، وأومأ إليهم أنْ اسكتوا فسكتوا - وهو قائم -، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه، ثم قال: ((أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين، المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا ترات، أنا ابن من انتهك حريمه، وسلب نعيمه، وانتهب ماله، وسبي عياله، أنا ابن من قتل صبراً، وكفى بذلك فخراً. أيها الناس، ناشدتكم بالله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه وخذلتموه، فتباً لكم ما قدمتم لأنفسكم، وسوأة لرأيكم، بأية عين تنظرون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من أمتي.
قال: فارتفعت أصوات الناس من كل ناحية بالبكاء والعويل، وجعل يدعو بعضهم بعضاً: “هلكتم وما تعلمون”. فقال علي بن الحسين (ع): رحم الله امرأ قبل نصيحتي، وحفظ وصيتي في الله وفي رسوله، وفي أهل بيته، فإنَّ لنا في رسول الله أسوة حسنة.
فقالوا بأجمعهم: نحن كلنا يا بن رسول الله، سامعون مطيعون، حافظون لدمائك غير زاهدين فيك، ولا راغبين عنك، فمرنا بأمرك رحمك الله، فإنا حربٌ لحربك، وسلمٌ لسلمك، لنأخذه ترت وترتنا عمن ظلمك وظلمنا، وبرأ منه.
فقال علي بن الحسين (ع): هيهات هيهات أيتها الغدرة المكرة حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم، أتريدون أنْ تأتوا إليَّ كما أتيتم إلى آبائي من قبل، كلا ورب الراقصات إلى منى، فإن الجرح لما يندمل، قتل أبي بالأمس وأهل بيته معه ولم يأنس (فلم ينسني) ثكل رسول الله، وثكل أبي وبني أبي، ووجده بين شق لهازمي ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصصه تجري في فراش صدري، ومسألتي ألا تكونوا لنا ولا علينا، ثم قال:
لا غرو إن قتل الحسين فشيخه
قد كان خيراً من حسين وأكرما
فلا تفرحوا يا آل كوفان بالذي
أصيب حسين كان ذلك أعظما
قتيل بشط النهر نفسي فداؤه * جزاء الذي أرداه نار جهنما
ثم قال: رضينا منكم رأسا برأس، فلا يوم لنا، ولا يوم علينا.