محبَّة الناس رصيد الفنان الحقيقي

الصفحة الاخيرة 2019/04/29
...

سعد صاحب
كان يرتدي نظارات شمسية تغطي نصف وجهه الاسمر الوسيم، لكنني برغم الفراق الطويل عرفته منذ الوهلة الاولى، انه الفنان الكبير سعدون جابر، صاحب الروائع الغنائية الشهيرة (حسبالي، البارحة، الكنطرة بعيده، ناطره عيوني الدربكم، مكاتيب، هوه الناس، يا طيور الطايرة). القيت التحية عليه وعرفته بنفسي، اجابني بلطف وحنان ورقة وشاعرية واحترام، وتجاذبنا الحديث وقوفا، قرب عربات الباعة بمحاذاة شارع الخيام الجميل. في هذه الاثناء تجمهر السابلة، ويا لها من لحظة وجدانية طافحة، بالود والاعتزاز ومشاعر الامتنان والوفاء والاصالة.
 صور تذكاريّة
الجمهور يريد التقاط الصور التذكارية مع الفنان المحبوب، والمطرب المتواضع يبتسم، ويوافق بكل ادب واخلاق ودون تذمر وكبرياء، كانت محبة الناس غامرة، وانها الكنز الثمين الذي لا يعادل بالجواهر. حافظ المطرب الواعي على حضوره الفني، في قلوبهم على مدار عقود متعاقبة، ولم يسأم من الرد على الرسائل، ومن المصافحة والتقبيل والمجاملة. انه الان على مشارف السبعين، من السنوات الطاعنة بالتعب والشيب والشجن والارهاق، والغربة والسفر الدائم، وبرغم الاعمال الخاصة به في بغداد، تجاوز هذه العقبات ورماها وراء ظهره، الذي لا يسنده سوى جدار الحب حين يستريح، وتفرغ للجمهور مخاطبا كل واحد بما يفهمه من الكلمات، تاركا اروع الانطباعات عندهم في دقائق معدودة. اكتشفت حينها ان الانوار الساطعة لم تجعل منه متكبرا، ووجدته خاليا من الغرور، مستثمرا هذه الشهرة لصالح مسيرته الغنائية الحافلة باروع الاغنيات الخالدة، وعرفت السر وراء لمعان نجمه بشكل متواصل، لاسيما عند جيل الشباب الحالي الذي لا يعرفه كما الاجيال السابقة.   
             
 بساطة
قلت في نفسي ما أروعك يا سعدون في هذه البساطة والمرونة والعفوية، وبهذا التعامل الراقي المعبر عن شخصية متماسكة، خلقتها تجارب الايام الصعبة، فكنت مميزا بهذا السلوك الاصيل، وكنت عراقيا حقيقيا بكل ما تحمل هذه الكلمة من دلالات رفيعة المستوى، في الاخلاق والتعاطف والمحبة الشاملة. ربما تخترق الخصوصية بسبب الاندفاع من قبل المعجبين، لكن الفنان الناضج لا يتذمر ولا يبدو عليه التوتر والسخط والازعاج، بل هو صاحب الابتسامة الدائمة، لا يقطع الاسترسال في الكلام ويطعمه بالقفشات والنكات المهذبة، وبين المزاح والجدية ترى نور الذكاء يشع من عينيه الذابلتين، وتشعر انك في حضرة انسان قدوة. لم يقل اني اكتفيت من هذه الحشود، او انني اكبر من هؤلاء المتعبين، على العكس بالتمام بكى امامي من اجلهم بصدق وبراءة والم، وداس على التعالي فكبر شخصه بين العيون. ادركت ان تصرفات سعدون جابر المحترمة،  سواء كان نجما في ذروة العطاء، او شخصا عاديا من عامة البشر، تسعى اليه الاضواء صاغرة من فرط  الاعجاب. 
 
 سلاح ذو حدين 
الانسان المشهور يعيش في عزلة دائمة، لكنها عزلة الدراويش والمتصوفة والممسوسين بنار الفنون، يحرم صاحبها من بعض الاشياء الجميلة، ويعتكف من اجل العطاء والابتكار، ومد يد المساعدة والقيام بشتى الفضائل. الشهرة سلاح ذو حدين، فهي اما ترفع المبدع الى العلياء، عندما يجيد التعامل معها بثقافة وذوق وحكمة، او تهبط به الى الحضيض، عندما يضيع في النرجسية التي تقوده الى الفشل.