سودانيات !

الصفحة الاخيرة 2019/04/29
...

 جواد علي كسّار
كثيرون لا يعلمون حتى في مصر والسودان، أنّ السودان كان تابعاً إلى مصر، على نحوٍ أدقّ لإدارة مصريّةـ بريطانيّة حتى سنة 1956م. وأغلبنا لا يدري أنّ السودان من حيث المساحة، هو أكبر بلد عربي قبل أن ينسلخ منه جنوب السودان عام 2011م، لتكون الجزائر هي الأكبر تليها السعودية.
أما الاثنيات والقوميات والطوائف، فلها في السودان قصة تستحق التأمل واستلهام الدروس، لاسيّما المسار الذي قطعه على طريق تركيب كيانه السياسي، وهويته الاجتماعية. ففي تموز 1898م ارتفع علمان على سارية قصر الحاكم في الخرطوم، هما المصري والبريطاني، وفي كانون الأول 1899م، وقّع وزير خارجية مصر بطرس غالي (قُتل سنة: 1910م) مع الدبلوماسي البريطاني اللورد كرومر (1841ـ 1917م) اتفاقية الحكم الثنائي، لإدارة ما عُرف يومها بالسودان الإنكليزي ـ المصري!
بيد أن ميزان القوى بين الإدارتين لم يكن متوازناً، بل كان غالباً ما يميل لصالح الإنكليزي، الذي تحرّك لاحتواء المصري وتهميشه. من حيث القوى الاجتماعية والسياسية المؤثرة، عاش السودان في ظلّ قوتين نافذتين، هما الختمية التي أسس لها السيد محمد عثمان الميرغيني الكبير (1793ـ 1853م) الذي قَدِمَ إلى السودان من الحجاز، ثمّ أولاده الحسن وهشام إلى القيادي البارز السيد علي الميرغيني (ت: 1968م) ومن بعده بقية أفراد الأسرة، وأحزابها السياسية من حزب الشعب إلى حزب الشعب الجمهوري، إلى حزب الاتحاد وغيره من تيارات الولاء للأسرة الميرغية، والاتجاه الختمي، الذي تمحور موقفه السياسي بمساره العام، بالدفاع عن العثمانية، والتقارب مع مصر، تحت شعار وحدة وادي النيل.
في المقابل كانت المهديّة التي تعود بواكيرها التاريخية إلى المهدي السيد محمد أحمد بن عبد الله (1844ـ 1885م)، صاحب الثورة التي انطلقت عام 1881م وانتهت بدخول المهدي والأنصار إلى الخرطوم عام 1885م. تقوم المهديّة الفكريّة على أساس رعاية التيارات الصوفيّة في المجتمع السوداني، ومنحى الكشف الصوفي في المعرفة، لكنها سياسياً ومن خلال الأنصار وحزب الأمة، تعدّ أبرز قوّة في تاريخ السودان السياسي والاجتماعي والثقافي، خلال ما يزيد على القرن والنصف. واليوم هي متمحورة حول زعامة السيد الصادق المهدي، كبير الأسرة؛ بل كبير السودان، وخيمة السودانيين. وبين السيدين المهدي والميرغيني، يأتي الجنوب الذي انفصل عن السودان، وبين تلافيف هذين التيارين وأحزابهما وواجهاتهما، نافذة محدودة لليسار والحزب الشيوعي السوداني، وما هو أوسع منها للإخوان المسلمين، بقيادة تصحيحية بل متمرّدة على القيادة التاريخية للإخوان، مثّلها الراحل حسن الترابي.
أخيراً هناك قوة العسكر، وهذا هو خطها البياني في السلطة: في كانون الثاني سنة 1956م استقل السودان، فدام الحكمُ مدنياً حتى انقلاب إبراهيم عبود أواخر عام 1958م، ليستمرّ عسكرياً حتى انتفاضة تشرين الأول عام 1964م، ليدوم مدنياً حتى انقلاب جعفر النميري عام 1969م، ويستمر عسكرياً حتى انتفاضة نيسان 1985م، وانقلاب عبد الرحمن سوار الذهب، الذي صدق بوعده وسلّم الحكم للمدنيين سنة 1986م، ليستمروا حتى انقلاب عمر حسن البشير سنة 1989م؛ البشير الذي استمرّ بالسلطة العسكرية حتى انقلاب العسكر عليه هذه الأيام من سنة 2019م، واترك لكم حساب المدّة بين الحكم العسكري والمدني، من استقلال السودان عام 1956م، إلى حكم المجلس العسكري الآن!