غياب صورة وصوت المثقف العراقي

منصة 2023/08/20
...

  رضا المحمداوي

قبل مدة قصيرة شهدنا حملة كبيرة وواسعة اشتركت فيها عدة جهات حكوميَّة رسميَّة ومنها وزارة الداخليَّة والمحاكم الجزائيَّة ونقابة الفنانين وبإشراف مباشر من السلطة القضائيَّة، وكانت تلك الحملة - وما زالت - موجّهة بشكل خاص ضد المحتوى الهابط الذي يقوم بالترويج له العديد من مشاهير {الفيسبوك واليوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي الأخرى}.

ومقابل تلك الحملة يفترض أو يتوجب أن يكون هنالك رد نوعيٌّ يتمثل بمحتوى ثقافي وفني عام ذي طبيعة جادة وملتزمة يتوجّه بحركة معاكسة ضد ذلك المحتوى المسيء والمبتذل. فقد باتَ معروفاً لدى الجميع أنَّ هناك كثيرين من الناس العاديين قد أصبحوا - بقصد أو بدون قصد - من منتجي المحتوى العام على (السوشيال ميديا) وخاصةً مقاطع الفيديو القصيرة التي تصوّر وتوثق وتدوّن تفاصيل حياتهم اليوميَّة والأسريَّة، وفي أغلب الأحيان كانت مثل تلك الفيديوهات المنشورة على صفحات (الفيسبوك) و(تيك توك) و(ريلز) وغيرها، تجدُ لها رواجاً كبيراً وانتشاراً سريعاً مثل النار في الهشيم رغم تفاهة وبذاءة وسخافة مضمونها ومحتواها العام وغالباً ما يكون توجهها غير منسجمٍ مع القيم المجتمعيَّة، وخلافاً لتلك القيم والاعتبارات نلاحظُ أنَّ تلك الفيديوهات بما تحملهُ من مضمونٍ أو محتوى فارغٍ، ومسيء، وبذيء تجد طريقها سهلاً في الانتشار والتداول لدى الصغار والكبار على حدٍّ سواء من دون تقييم لمحتواها ومضمونها، وبالنتيجة فإنَّ مثل تلك المقاطع المبتذلة برواجها وانتشارها تكتسب الكثير من الإعجابات والتعليقات والمشاركات التي تزيدها حضوراً وتفاعلاً، وبالمقابل تغيب عن أذهان الغالبيَّة العظمى من أولئك المنتجين والمتفاعلين مع تلك المحتويات التافهة عملية جردة حساب لنتائجها الجانبيَّة ولا يضعون في الحسبان حجم التأثير السيئ الكبير وردود الأفعال السلبيَّة على نفسيَّة وأفكار (المتلقي) وهو يتفاعل مع هذه المحتويات وسعة انتشارها وتداولها. إنَّ صور ونتائج الانحدار الفكري والثقافي العام في تلك المحتويات الهابطة تتمثّل لنا حين يصبح مشاهير تلك الفيديوهات والمحتويات والمنشورات ومنتجو المضامين المسيئة والتافهة هم قدوة المجتمع أو النماذج الناجحة في المجتمع نظراً لما يتمتعون به من شهرة ومكانة وإعجابات، وربما يجد أولئك من منتجي التفاهة مكاناً مُهمَّاً في الإعلام المرئي والقنوات الفضائيَّة والمنصات والمواقع الالكترونيَّة ومحركات البحث والمتابعة، في حين يبقى المحتوى الثقافي والفني الجاد وأصحابه من الأدباء والشعراء والقصاصين والإعلاميين والصحفيين في دوائرهم المغلقة وتأثيرهم (الورقي) الجامد

 والمحدود.

فكيف يمكن أنْ نتغافل أو نتجاهل عن إشاعة المحتوى الثقافي والفني الذي تقوم به وتعقد جلساته العديد من الملتقيات والمنظمات الثقافية مثل اتحاد الأدباء واتحاد الإذاعيين والتلفزيونيين و(جمعية الثقافة للجميع) و(ملتقى الاثنين التنويري)  ونقابة الفنانين وغيرها العديد من التجمعات الثقافية؟

فثمة غيابٌ وتجاهلٌ متعمدٌ في عدم توثيق مثل هذه الجلسات وبثها في مواقع التواصل الاجتماعي وإشاعتها بين الجمهور العام.

ولدى حضوري الدائم والمستمر للعديد من الفعاليات الثقافيَّة والفنيَّة وجدتُ غياباً تاماً لكاميرات القنوات الفضائيَّة وعدم قيامها بتوثيق وتسجيل وبث وقائع هذه الجلسات والفعاليات والأنشطة وما يدورُ فيها من حوارٍ وقيمٍ وما تحتويه من معانٍ ثقافيَّة وفكريَّة رائعة. أليسَ هذا هو المحتوى الثقافي المطلوب إشاعته ضد المحتوى الهابط الشائع والمتداول والآخذ بالاتساع والانتشار يوماً بعد يوم؟

وحقيقةً أنَّ هذا الغياب والتجاهل في عدم إشاعة المحتوى الجاد والملتزم وصاحب الفكرة والرسالة الهادفة أمر يحزُّ في الضمير والقلب والعقل معاً.

أين البرامج الثقافيَّة والفنيَّة في القنوات التلفزيونيَّة الفضائيَّة؟

فمن غير المعقول أنْ نتصورَ عدم وجود برامج ثقافيَّة وفنيَّة ومنوعة متخصصة تُعنى بمتابعة وأرشفة ونشر هذه الجلسات أو الإشارة إليها أو العمل على إشاعتها ونشر محتواها الصاعد نحو المعنى الذي نبحثُ 

عنه. في علم نفس المعرفة هناك حقيقة ثابتة تقول إنَّ الناس يميلون بحكم تكوينهم البايولوجي الأساسي إلى تصديق أيِّ شيء يرونهُ قياساً إلى أي شيء آخر يسمعون به، وهذا يعدُّ أمراً منطقياً جداً في طبيعة حياتنا اليوميَّة، وبناءً على ذلك كلما تكرّرتْ مشاهدة شيء أو واقعة أو صورة أو مقطع فيديو ازداد احتمال تصديقنا بأنه حقيقيٌ وصادق (كل ما هو حقيقي فهو صادق) ولذا كلما تكرّرتْ مثل هذه المواد المرئيَّة ازددنا قُرباً من شعورنا بالأُلفة والاعتياد عليها وازدادتْ معها نسبة تصديقها أو احتماليَّة تصديقها في أقل تقدير.

وإزاء المحاولات المستمرة والميل الواضح والكبير لتلك المحتويات الهابطة وهي تسعى لتسطيح الحياة وقيمها ومفاهيمها والعمل على إفراغها من أيِّ محتوى مهم، فإنَّ المقارنة بين المشهد الثقافي العراقي بيومياته ومواسمه وحركته الفاعلة والنشيطة، وبين ما تقدُّمهُ القنوات الفضائيَّة من يوميات ثقافيَّة (أدبيَّة وفنيَّة) لن تكون لصالح الثقافة العراقيَّة وحضورها الفاعل والمؤثر، إذ نجد ذلك البون الشاسع بين الاثنين وكأنَّ مسافات طويلة تفصل بين الثقافة وإلإعلام التلفزيوني الثقافي المواكب لحركة تلك الثقافة والمُعَبّر عن فاعليتها وحركتها الحيويَّة، إذ لا نجد سوى الاهتمام الضعيف والمتابعة المتلكئة من قبل تلك القنوات التلفزيونيَّة إزاء تلك الحركة الدائبة وذلك النشاط المستمر للثقافة العراقيَّة.

ومن هنا تتأتى أهمية أنْ تولي القنوات الفضائيَّة عنايةً ورعايةً ثقافيَّةً خاصة لتلك الملتقيات والفعاليات الأدبيَّة والفنيَّة وما تزخر وتكتظ به من موادّ ومضامين ومحتويات ثقافيَّة مع الحرص الشديد على الترويج لتلك المواد بذات القوة والحضور والمثابرة من أجل انتشارها وباستخدام الأدوات والأساليب ذاتها الشائعة المستخدمة في (السوشيال ميديا) وذلك من أجل تجسير المسافة الفاصلة بين الثقافة وجمهورها العام وردم الفجوة بينهما.

وبكلمة أخيرة يتوجّبُ العمل على إيصال الصورة الفكريَّة والصوت الثقافي إلى السواد الأعظم من الجمهور بجميع طبقاتِهِ وشرائحِهِ وفئاتِهِ وتسليط الضوء على الموضوعات والأفكار والتصورات المطروحة للتداول والحوار والمناقشة في تلك الملتقيات والتجمعات الثقافيَّة.