منحوتات بيكاسو الورقيَّة

منصة 2023/08/23
...

  ڤنسنت بودو
  ترجمة: مظفر لامي

كثيرًا ما تخصص المتاحف العالمية معارض خاصة لتسليط الضوء على جانب غير معروف من انجازات المبدع الأكثر شهرة في تاريخ الفنون التشكيليَّة في القرن العشرين. الاسباني بابلو بيكاسو، الذي عرف  برغبته الدائمة في الاكتشاف، وبراعته الملفتة في الرسم، النحت، اللصق {collage} ، الفخار، النسيج، التصوير الفوتوغرافي وحتى الشعر. وقد نتساءل ونحن نتفحص جانباً معيناً من اشتغالاته، عن وضع الفنون التشكيلية في عصرنا الراهن من دون وجود للورق، تساؤل قد يبدو غريباً، لكنه لا يخلو من معنى، فنحن نلمس أهمية حضور هذه المادة بين غيرها من الوسائط بوضوح تام.

تجدر الإشارة هنا إلا أن الورق الذي نتخلص منه كل يوم بآلاف الأطنان في مواقع الطمر والمجاري، كان سلعة نادرة قبل بضعة قرون. لكنه أصبح عبر التاريخ متاحا جداً في المجالات الفنية، يستخدمه الفنانون بشكل متزايد في مهام ثانوية غير واضحة، مثل مشاريع ورش العمل، والرسومات التحضيرية التي لا قيمة لها، والتي غالبا ما تتلف حرقاً. إنه وهم بأثر رجعي أن نعتقد أن المصممين أعطوا الرسم على الورق الأهمية التي نوليها له اليوم.
مع بيكاسو، كان الأمر مختلفاً، فقد نظر إلى كل ورقة، أيا كان مصدرها، على أنها حافز محتمل يبعث فيه البهجة. وتعطشه الدائم، كان معززا بدافع لكسر الرتابة، وتجاوز الأعراف، ومقارعة كل ما هو بديهي، وحيازة كل ما يُمكنه من إرضاء شغفه وتطلعه لما هو غير متوقع. طوال حياته، مارس بيكاسو الرسم بالمعنى التقليدي للتصوير، رغم أن هذا الأخير لا شيء فيه تقليدي. وإبداعاته لم تكن تأتي نتيجة لتطور متواصل ومنطقي، يمكن التنبؤ به. بل تتشكل من انتقالات سريعة، انتكاسات، انقطاعات، ابتكارات، تجارب متنوعة، يتخلل البعض منها شيء من الجرأة أو (افتراضات مجازية كما يقول البعض)، فتؤدي بالتالي لمسارات جديدة، لكن البعض الآخر قد يتخلف عن ذلك ويتوقف. ويبدو أن ذلك لم يكن هو الهدف المقصود، فهذا التعمق جعله يرى بوضوح ما أصبح لاحقا عقيدة فنية لديه.
في المعارض الكثيرة التي قدمت فيها أعمال بيكاسو الورقية، يتم تداول مفهوم شكل الورقة، التي هي -تاريخيا- عبارة عن مستطيل قياسي له أربع زوايا قائمة، وسطح أبيض مستو. ماذا يحدث عندما يغير الفنان واحدا أو أكثر من هذه الثوابت؟ أو يجمع ورقتين لا رابط بينهما؟ أسئلة بسيطة كهذه، نتج عنها آلاف الأعمال التي خرجت من بين يدي مبتكر نهم، سخر حياته للتعامل مع أبسط الأشياء، وأبعدها احتمالاً، برؤية جديدة غير متوقعة، ناهيك عن كونها غير متحفظة. كان بيكاسو قد تبع صديقه جورج براك، الذي لا يختلف عنه في السن سوى ببضعة أشهر، في استخدام القصاصات الورقية في أعماله منذ عام 1912. حيث قدما أعمالا لم يسبق لها مثيل، اشتملت على تقنية اللصقcollage ، حيث ينتقل الرسم بالقلم الرصاص أو الفحم من ورقة إلى أخرى. فينعدم تماماً وجود أي تشابه بين دعامة ورقية وأخرى، فهما يختلفان في النمط والبنية وظلال الألوان، حتى لو كانا بلون أبيض واحد، فحبيبات الورق تلتقط قدر مختلف من الضوء، مثلما تتباين في درجات اللمعان والانطفاء، وامتصاص الأصباغ (أو البقع والعلامات العرضية) بطريقة أو بأخرى. وتأتي هنا أسئلة مثل: هل هذه الورقة بلون واحد؟ هل وضع عليها نقش أم نص؟ وهذا الأخير هل هو مقروء أم مجزأ؟ كذلك، يؤكد مضي الزمن، عدم التماثل بين تركيبة كيميائية وأخرى، والتأثيرات التي ستطرأ على كل واحدة منها ستكون لا محالة مختلفة.
كان يطيب لبيكاسو أن يردد (أنا جاد كطفل يلعب) شرط أن تعرف، أن اللعب يطور العديد من المهارات، مثل الاختيار، التخيل، التنظيم، الترميز، الابتكار والجمع بين المنطق والخيال.. الخ. لقد شرع في التساؤل؛ لم لا يشمل ذلك مكونات أولية أخرى في سطح الورقة؟ وهل يجب أن يكون بلون أبيض؟ هل يكون مستويا؟ إن تعاملت معه بفظاظة ودون مراعاة، يقول بيكاسو مع نفسه، ستبدأ الزوايا فيه بالانطلاق. لندعها تفعل ذلك، يقول الفنان الذي يبدأ في دمج هذا الحطام في صميم عمله الفني، فتولد تلك القطع الصغيرة الرائعة المصورة بعدسة المصور براساي Brassai، والتي تظهر كيف للأسطح العادية المتواضعة واللطيفة أن تصبح أعمالا فنية. لقد اكتسبت هذه المنحوتات بعدها الفعلي من خلال ما تعرضت له من ثقب وحرق وتمزيق وانتهاك، في مفارقة مثيرة للاهتمام، تلخص جميع الاشتغالات التي قام بها مبدعها. بمرور الزمن، جمع بيكاسو بالتأكيد مخزونا هائلاً من أوراق الرسم، لكنه أضاف إليها أوراقا تحمل شيئا من الخصوصية والقدم والغرابة، كذلك، المزيد من الملصقات، الصحف، المناديل، قطع من مفارش الموائد، مغلفات وبطاقات الإعلانات.. الخ، التي لا يعتزم هذا الجامع ذو الميول القهرية التخلي عنها. فللورقة قيمة بذاتها، نظرا لكونها خفيفة وذات مرونة تجعلها قابلة للتلاعب دون الحاجة لمهارة فائقة، وتبدو مادة مثالية لمن لديه رغبة لا تعرف الكلل لاستكشاف كل ما تحتويه من
إمكانيات.
ثمة ميزة في الورق أن العمل عليه يعطي نتائج مباشرة، في حين يستغرق انجاز العمل النحتي التقليدي وقتاً طويلا، وغالبا ما يتطلب معدات ثقيلة. فهو ينثني بسهولة، يلتف، يتجعد، يُدور، يقوس، يلصق ويقطع، وبالتالي يأخذ شكلاً ثلاثي الأبعاد، بقابلية إبداعية أكثر مما هو متاح في فن الأوريجامي، الذي تعرف نتيجته النهائية مسبقاً. على العكس من ذلك، لم يكن بيكاسو يعرف نتيجة عمله، فهو يضع نفسه في خدمة ما يجري، دون أدنى رغبة في فرض سيطرته. ويدع الأشياء تحدث، بينما يبقى في انتظار وترقب لما هو غير متوقع، وهنا تكمن عبقريته. فقد أنتج المئات، إن لم يكن الآلاف، من هذه النماذج غير المهمة، التي تطور البعض منها لمنحوتات حقيقية، نفذت لاحقا باستخدام مواد أكثر جودة وديمومة، وكان من الصعب تخيل ابتكارها من خلال عملية إبداعية أخرى.