حسين البصري.. الحزين الذي ينشدُ الفرح

الصفحة الاخيرة 2019/05/04
...

سامر المشعل 
نزحت عائلته من محافظة البصرة وسكنوا في منطقة الشاكرية في بغداد، ليبصر حسين النور ومن ثمة انتقلت عائلته الى مدينة الثورة “ الصدر” حالياً.. عاش حياة ملؤها الحرمان والفقر في بيئة شعبية فقيرة.. أحب الموسيقى والغناء.
اشترى آلة العود بمبلغ خمسة وعشرين ديناراً، جمعه من اشتغاله “ بالعمالة “. ودرب نفسه بالعزف على هذه الآلة.
أول أغنية للفنان حسين البصري هي “ حد الشوف “ في العام 1972 وبعد عام اصدر أغنية “ شفتج بعيني”، وفي العام 1976 اصدر كاسيت “ الصورة “ ومن ضمنه أغنية “ كمر كمر “، التي استوحاها من أغنية عبد المحسن المهنا “ الله أمر عاشق وأحبك ياكمر “. وكان متأثراً آنذاك بالفنان عبد الكريم عبد القادر.
البصري فنان شامل، فهو يكتب ويلحن ويغني، وله أسلوبه الخاص في الغناء والتلحين وقدم انموذجاً راقياً للاغنية الشعبية، يستمد موضوعاته من يوميات الناس ومعاناتهم، فجاءت أغنية “ كوه كوه “ من خضم معاناة فراق حبيب عن حبيبته، بسبب سياسة التهجير التي مارسها النظام الدكتاتوري ضد التبعية الايرانية.
وأغنية “ انا فنان “ جاءت من حوار الفنان حسين البصري مع امرأة تبيع في الساحة الهاشمية بعمان في تسعينيات القرن الماضي، عندما وصل الجوع الى العظم اثر العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق، وكان احد ابنائها قد قتل بالحرب. وعندما غنى هذه الاغنية امام الشاعر عبد الوهاب البياتي بكى وتأثر بها وقال “ علمنا حسين البصري ان ننزل الى الساحات لنكتب الشعر “.
كذلك أغنية “ نايم المدلول “ التي تركت اثراً عميقاً بذاكرته، عندما شاهد احد الجنود وهو بريعان الشباب قد سقط قتيلاً، لاصابته بشظية ولا تبدو عليه آثار الموت، ولم يصدق ان هذا الشاب الوسيم الانيق الحليق الذقن، قد فارق الحياة، فجاءت أغنية “ نايم المدلول حلوه نومته “.
تمتاز أغنيات حسين البصري بالايقاع الخفيف الراقص مثل الهيوة والخشابة.. والجمل الموسيقية الرشيقة الممزوجة بصوت مضمخ بالحزن المعتق، وكأنه يريد بهذه الخلطة ان يفتح نوافذ للروح تخرج منها الآهات والهموم، كما هي فلسفة الرقص على ايقاع قرع الطبول عند الافارقة لاستخراج الارواح الشريرة من جسد الانسان المعذب.
قدم البصري تراجيديا الفرح، فهو ينطلق في كتابة وتلحين اغانيه من الموقف الانساني الذي يمر به، كما يسمى في الاصطلاح المسرحي “كوميديا الموقف “ فهو من أكثر الفنانين الذين بثوا الفرح في الاغنية العراقية ذات الطابع الفجائعي، وعندما قدم الثنائي مي اكرم ووحيد أغنيته “ استعجل يا ميل ساعة “، كانت اشبه برذاذ تشريني ينث الفرح على يباب الروح التي تيبست بفعل القهر واللوعة.
حتى ان الرئيس السابق أحمد حسن البكر عندما جاء الى بيته وجد اولاده يرقصون على الارائك ويغنون “ استعجل يا ميل ساعة “ وعندما وجد الرئيس الفرح في عيون اطفاله، اتصل على الفور بوزير الثقافة وطلب منه ان يكرم الفنان الذي صنع هذه الاغنية.
وجد الثنائي مي ووحيد ضالتهم في الحان البصري الخفيفة الظل والمقبولة شعبياً، فعاودا الكرة باغنية “ رايح وين كلي “. 
اصدر البصري العام 1980 كاسيت “كوه كوه” ثم اعقبه في العام 1982 بكاسيت “علميني شلون انسه” ليرسخ تجربته الابداعية على ارض صلبة في ساحة الغناء العراقي ويكون على مدى حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، المطرب العراقي الاول المطلوب في الحفلات والاعراس. 
وبفعل الشهرة الكبيرة التي تمتع بها البصري انتجت له شركة بابل شريطين منها “ نسيتيني “.. السر في شيوع اغنيات البصري جماهيرياً هي العفوية والصدق في انفعالاته الحسية والفنية، مثلما يصف هو ذلك، مستوحياً اغنياته من قصص الواقع والعذابات اليومية، فهو يبادل اوجاعنا بمسرات وقتية تنشد الفرح وتثير شهية الروح للانعتاق من الهموم نحو افق الحرية والامل.
واذا كانت تجربة البصري الغنائية تتسم بخفة الظل وقريبة من الحس الشعبي، فلا نعني انها سطحية وتذهب ادراج الرياح !!. انما هو قدم فن السهل الممتنع بتلقائية ابداعية نجح ان يكون قريباً من مشاعر واحاسيس الجمهور. لكن هناك اغاني تتسم بالانتقالات المقامية والالحان المركبة التي تثير دهشة الملحنين الاخرين، كما في أغنية “ دمع شمعاتنا “ واغنية “ شفتج بعيني “ التي كتب كلماتها كريم راضي العماري.
على الرغم من ان البصري كتب معظم اغانيه، الا انه تعامل مع مجموعة من الشعراء منهم طاهر سلمان وداود الغنام وحامد الغرباوي وغيرهم. وله تجارب في تلحين القصيدة مثل “ اني خيرتك “ للشاعر نزار قباني التي لحنها قبل الفنان كاظم الساهر بسنوات طويلة، وايضاً برع في تلحين واداء الاغنية السياسية الثورية والتمرد على السلطة الاستبدادية كان من سمات الفنان حسين البصري، بل هو محارب شرس ضد الفاشيست والدكتاتورية ولم يغن للنظام الدكتاتوري السابق، الامر الذي كلفه السجن وانحسار الضوء الاعلامي عنه، وعدم قبوله في دائرة الاذاعة والتلفزيون، رغم امكانياته الفنية وحب الناس له ونجاحه الجماهيري، وظل البصري الى يومنا هذا قريباً من افكار ومشاعر الناس وبعيداً عن موائد الحكام، يصوغ من اوتار عوده ونغمات صوته الشجي أغنية للامل والانطلاق نحو افق ملون بالحب والحرية، رغم ان مساحة الفرح في اغنياته الاخيرة اخذت بالانحسار.