التأجيج الكلامي

الصفحة الاخيرة 2019/05/04
...

 جواد علي كسّار
كثيراً ما أراقبه وهو يتنقّل من فضائيَّة إلى أخرى، مزهواً بظهوره، محرّضاً ومؤججاً باسم فلسطين مرّة، والمقاومة والمواجهة مرةً أخرى؛ مقاومة ((إسرائيل)) ومواجهة أميركا!
كتبَ من على صحيفته الالكترونية، مقالين خلال أقلّ من شهر، يبشّر بحرب في لبنان قائمة لا محالة، وبمواجهة عسكريَّة لا بدّ منها بين إيران وأميركا واقعة قبل الثالث من الشهر الحالي، والحمد لله أنَّ نبوءته (بل قل تحريضه) باء بالفشل، وضاع كيده في تباب. وحسناً فعل السيد حسن نصر الله حين ردّ عليه وعلى أمثاله من المؤججين والمحرّضين، في خطابين متتالين، من أنَّ توقيتات الحرب كاذبة، والكلام عن مواجهة قريبة ومحتّمة بين حزب الله و((إسرائيل)) هو جزء من حرب نفسية. كما تواترت الأخبار من طهران، أنها لا تسعى لإشعال فتيل الحرب، إلا دفاعاً عن النفس إذا فرضت عليها، كما أنها لا تَرغب بإغلاق مضيق هرمز.
هذا الرجل المؤجج لفتنة الحرب والمحرّض على سفك الدماء، لا ينطلق من فراغ، بل كان له قبل صحيفته الالكترونية، صحيفة ورقية يومية تصدر من لندن، تعيش على الفتن والشغب، وتقتات على محنة العراقيين، وتتغذّى بدمائهم إبان حصارهم، وهو يأخذ الأموال من صدام ويتزلّف إليه وإلى أضرابه من الطغاة!
هذا ((الثوري)) والمؤجج جالس في لندن، وهو يتمنى أنْ تشتعل المنطقة من لبنان إلى إيران، وهو سالم برأسه في لندن وآمن بأسرته في بلد الضباب، ولو كان صادقاً لكان في قلب المعركة ببلده فلسطين، أو قريباً منها.ضمن استقراء أسجّل أنه ناقص، لاحظت أنَّ أبرز أصحاب الخطابات الثورية من المؤجّجين؛ يعيشون في الغرب. تابعتُ أحدهم (بل أكثر من واحد) وهو يحرّض على بلده العراق، ويصبّ جامّ غضبه على كلّ شيء، فوجدته يسكن لاجئاً إنسانياً في الدول الأسكندنافية، ويستفيد بالإضافة إلى ذلك، من راتب تقاعدي يتقاضاه من بلده الذي يحرّض عليه! أزمات كثيرة تحصل من حولنا؛ أزمة في إيران، وأخرى في السعودية، وثالثة في البحرين؛ وهذا النمط من المحلّلين المحرّضين يريد للعراقيين أنْ يتحولوا إلى محرقة في عجلة تلك الأزمات. أجل، أتفهم المواقف الأخلاقية والإنسانية والدينية، التي تصدر من موقع الإدانة أو التعاطف، بيدَ أنَّ هذه المواقف شيء، والمواقف السياسية شيءٌ آخر.
شخصياً يساورني شكٌ عميق بدوافع هذا النمط من المحللين الثوريين المؤجّجين، وإذا سلمت النوايا فهم في خطأ فادح، بل خطبٌ عظيم، حين يدلعون ألسنتهم دون ضوابط. فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله، وكأنه يتحدّث إلى هذه الفئة وإلى أصحاب الفضائيات المنفلتة، وهو يقول: "يعذّبُ الله اللسان بعذابٍ لا يعذّبه شيئاً من الجوارح، فيقول: أيّ ربّ عذبتني بعذاب لم تعذّب به شيئاً، فيقال له: خرجتْ منك كلمة، فبلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسُفك بها الدم الحرام، وانتُهبَ بها المال الحرام، وانتُهك بها الفرج الحرام".
لا تُبنى المواقف على أساس ما يقوله هؤلاء، بل على معطيات الواقع نفسه، والواقع لا يُعرف بالرجال، تماماً كما في موروثنا، من أنَّ الحق لا يُعرف من أفواه الرجال، بل يُعرف بنفسه، وبحيثياته وأبعاده. ولكي تتضخّم أمام أعيننا جريمة الكلمة وهي تؤجّج وتؤلب، نقرأ في الحديث الشريف: "يجيء يوم القيامة رجلٌ إلى رجلٍ حتى يلطّخه بالدم، والناس في الحساب، فيقول: يا عبد الله مالي ولك؟ فيقول: أعنت عليّ يوم كذا وكذا بكلمة، فقُتلت"!