عاشوراء والتحدي العضوي

منصة 2023/09/02
...

د. جبار خماط حسن

محزون من يفتقد شخصا، يتيه في ألم الوجع، ينتظر حضوره رمزا وليس تحققا ماديا، ولكن ماذا لو فقدنا مشروعا إصلاحيا، أراد إحياء جديدا لدين تحول حكرا عائليا يعود بالمنافع على بطانة السلطة, في حين نجد الناس في فقر مدقع، هذا المشروع تبناه الإمام الحسين، ليحقق العدالة والمساواة، عدالة توزيع الفرص، والمساواة في خراج بيت المال لكل الناس، فلا فرق بين الأبيض والأسود إلا بالتقوى، ولا فقير ولا مسكين في أمة إسلام.
يقول الجرجاني: قد نرى الصورة تكمل شرائط الحسن، وتستوفي أوصاف الكمال، فإنها أدنى للقبول وأعلق بالنفس وأقرب إلى القلب "، هكذا نجد واقعة الطف، اكتملت صورتها، استوفت أوصاف الكمال، فانعكست على النفس إيمانا وفعلا إصلاحيا .  
علينا معرفة حركة التاريخ، وكيف أنتجت نمطين من الحركة، إحداهما بيد السلطة تتحكم بالرعية وتدمر وجودها بالبطش والطغيان، والحركة الثانية موازية تمثل المعارضة التي توالدت بعد استشهاد الإمام الحسين، تعمل بالأفكار الجديدة التي تقوض من بنيان تلك الأنظمة الاستبدادية، التي تواجهها بالقمع والتنكيل، لكنها حركات استمرت لترى مشروعها الإصلاحي قد تحقق بعد حين . وهنا أستحضر ما قاله الجواهري، تعبيرا عن حالة المعارضة التي في قيدها مفتاح للحرية :
كأن القيود في معصميه
مفاتيح مستقبل زاهر
وفي موضع آخر ، يبين لنا أن طريق التغيير الإيجابي ، يتطلب تضحيات، تمثل طريقا سالكا نحو السلام المجتمعي والحكم الرشيد .
يقول الجواهري :
لثورة الفكر تاريخ يحدثنا
بأن ألف مسيح دونها صلبا

هكذا نرى واقعة الطف، انطلقت من قول " مثلي لا يبايع مثله "، تناقض في الفكر والأداء، أحدهما / الحسين، يريد الإصلاح في أمة جده / وكأنه مصداق لقول الرسول محمد (ص) حسين مني وأنا من حسين، تماثل في الفكر والمنهج .
وفي المقابل / يزيد، ونجد منهج الاستعلاء والاستبداد والقهر المجتمعي، فالحكم لديه ملكية عائلية صرفة، لا شأن للرعية بها ، لا يحسب لهم رأي ، ولا يسمح لهم بمبادرة .
نحن أمام منهجين، الأول إصلاحي يؤمن بالإنسان ، إذ لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، والثاني منهج استعبادي - قهري، يهدم ولا يبني ، يقطع ولا يصل .
هكذا كانت واقعة الطف في العاشر من شهر محرم، انتهت بانتصار الشهادة، لأن مشروع الإصلاح الذي تبناه الحسين (ع) ما زال حيا، يتجدد في النفوس والعقول لدى كل مؤمن بالتغيير الإيجابي . هكذا يتوافد الملايين من العراق وخارجه لإحياء ذكرى مقتل الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام ) في العاشر من محرم، في مدينة كربلاء جنوبي بغداد،  تجمعات مليونية، تزحف إلى كربلاء، لتعوض ما فقده الإمام الحسين آنذاك حين بقي وحيدا من دون إخوته وأبنائه وأصحابه، يأتون كل عام،  يرددون هتافهم المدوي: لبيك يا حسين .. هذا التبادل في الحالات والأزمنة والانتماء جعل من مشروع الحسين عضويا يتوالد مع حركة التاريخ وتحولات الواقع المعاش . لم  ينصرك  في زمنك إلا القليل، ونحن كلنا معك، نمشي على طريقك التنويري، الذي فيه حياة وكرامة وسعادة .
لم تعد وحدك، إذ الجميع معك، نصرة لمشروعك الإصلاحي، وتعديلا للمسار في واقع  يعاني الفساد السياسي والاقتصادي والإداري .
ها هي زيارة الأربعين تجمعنا,  تجمع بشري هائل، يقدم الولاء لقائد لم يمت فكرا وسلوكا، لم  يرض بالضيم وقهر الطغاة، كل عام يتجدد الولاء، يتجدد هذا الفعل الطقسي الذي قل نظيره، يقوم على المشي من جهات العراق الأربع صوب كربلاء، لا ينحصر الولاء محليا، بل يتعداه ليكون إقليميا ودوليا، إذ نجد المطارات حيوية ونشطة في استقبال الزائرين الذين جاؤوا من إيران وأوروبا والهند وباكستان ودول الخليج لأداء طقوس إحياء هذه الذكرى .
المواكب الخدمية مائدة متنوعة المأكل والمشرب، تقدم  للزائرين، وسط إجراءات أمنية وصحية اتخذتها الوزارات ذات العلاقة بالشأن الأمني والصحي والخدمي .
نعيش عاشوراء بالتزامن مع اشتعال الأوساط الإسلامية رفضا لحرق القرآن في السويد والدانمارك، نجده انعكس في كثير من الممارسات الشعائرية العاشورائية، إذ نجد القرآن حاضرا، فالحسين وتوجهه الإصلاحي، تطبيق عملي أصيل لمبادئ القرآن الكريم .
ما زلت أردد ذلك الدعاء المهيب، الذي يخرج من قائد ثابت محتسب، لا يخيفه جمعهم الكبير، حاصروا مخيمه، أضرموا النار فيه، في العاشر من محرم، إذ يقول الحسين:  اللهم أنت ثقتي في كل كربٍ، ورجائي في كل شدّة، وأنت لي في كل أمرٍ نزل بي ثقةً وعدّةٌ،  وأنت ولي كل نعمةٍ، وصاحب كلِّ حسنةٍ، ومُنتهى كلِّ رغبة.
البداية هي الله، وثقته المطلقة، والنهاية هي الله المنتهى لكل رغبة أو توجه، انتصار فكري انتقل إلى الكثير من الحركات الثورية والإصلاحية التي اتخذت من الحسين وحركته الإصلاحية منهجا في محاربة الظلم والطغيان .  إن الحسين استشهد في المعركة، إلا أنه كان منتصرا من خلال مبادئه، إذ أثارت مبدئيته وثباته في كربلاء سلسلة من الانتفاضات الصغيرة ضد نظام يزيد المستبد، مما أدى إلى انهيار هذا النظام .