حين انتصر الدم على السيف

منصة 2023/09/02
...

عباس الصباغ

يتوهم الطغاة ومستعبدو الشعوب أنهم بالقضاء على الحركات التحررية والتنويرية والجهادية، قد ساهموا بقمعها والتخلص منها إلى الأبد، ولا يدرون أنهم قد ساهموا بمنحها حياة جديدة خاصة وخلودا خاصا بعد اضطهادهم لشهداء تلك الحركات، وكما أعلن الإمام الشهيد عليه السلام عن برنامجه الإصلاحي التنويري الشامل  في رسالته المقتضبة لأخيه محمد ابن الحنفية (رض): (إنّي لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي مـحمد (ص) أُريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي مـحمد (ص)  وسيرة أبي علي بن أبي طالب)، ونتيجة للصلابة في الطرح  فقد جوبه برد عنيف وقاس ووحشي غير مبرر  من أزلام السلطة الأموية، أدى إلى تلك النهاية المأساوية له باستشهاده، ولجيشه الصغير المكون من جماعة من أهل بيته وبعض الأتباع المخلصين على أرض كربلاء سنة 61 هـ .
المعركة غير المتكافئة انتهت بإبادة ذلك الجيش الصغير الذي كان الإمام الشهيد (ع) على رأسه، وانتهت سويعات يوم الطف الدامي، لكن القضية قد بدأت واستمرت ولم تتوقف لأن البرنامج الذي أعلنه الإمام الشهيد (ع) لم يكن مجرد شعار استهلاكي يراد منه كسب الأتباع أو لمصلحة سياسية دنيوية بحتة، فهو برنامج إصلاحي شامل وعلى جميع الصعد والمجالات، ابتداء من قمة الهرم السياسي الفاسد، وليس انتهاء بتفاصيل الأسرة والمجتمع التي شابها الكثير من التشوهات والانحرافات  .
كان الإمام الشهيد (ع) يريد إصلاحا استراتيجيا لكل مفاصل ومحاور الحياة والمجتمع، على طريقة جده الرسول (ص) الذي فتح أبواب الحياة الكريمة لأناس عاشوا الجاهلية بكل أدرانها ومفاسدها وظلاماتها وحيثياتها المرعبة، وليس كما يتوهم البعض من المؤرخين أن حركة الإمام الشهيد (ع) كانت من أجل السلطة حين بايعه أهل الكوفة، بأن (اقدم فقد اينعت الثمار واخضرّ الجناب وإنما تقدم على جند لك مجندة)، وحين وصل إلى كربلاء وجد الأمر مقلوبا، فلم ينل السلطة وكان عازفا عنها كأبيه علي بن أبي طالب (ع) حين بايعه المسلمون جميعهم بعد مقتل الخليفة الراشد عثمان، إذ قال لهم: (اتركوني والتمسوا غيري) وأعرضَ عنهم، وبعد إلحاحهم الشديد قبل العرض منهم خشية من أن تؤول الأمور إلى غير الكفوء، وهكذا كان الإمام الشهيد (ع) سائرا على خط أبيه .
الانتصار الزمني والعاجل بسحق ثورة الحسين سحقا غير أخلاقي، لا يعني أن الثورة انتهت، فهي لم تنته بل فتحت الباب مشرعا أمام الكثير من الثورات والانتفاضات الجهادية والاستشهادية، كلها استمدت من ثيمة استشهاد الحسين (ع) ومن ثيمة كربلاء والطف الكثير من البرامج والشعارات والأخلاقيات، وإن لم تحظ أغلبها بالنجاح بعد أن قدمت الكثير من التضحيات والدماء والأرواح، لكنها تعلمت من الحسين ذلك الشعار الخالد، (هيهات منا الذلة)، وتعلمت كيف ينتصر الدم المسفوح على السيف الظالم، فانتصرت كما انتصر الحسين بدمه، وخاب الظالمون من أزلام السلطة الجائرة والفاسدة .