قصة عبيد الله بن الحر الجعفي مع الحسين {ع}

منصة 2023/09/02
...

جواد علي كسار

الزيارة وشعر الرثاء هما مظهران من أبرز المظاهر التي أعقبت واقعة 10 محرم عام61 هجرية، التي خرّ فيها الإمام الحسين وثلة من أهله وأصحابه صرعى شهداء على ثرى كربلاء، دفاعاً عن وحي الله، وشريعة الرسول، وكرامة الإنسان.
إن أبرز ما ارتبط بذينيك الظاهرتين من خصال، هي الحبّ والحزن والندم. فمن يحسّ بسلامة موقفه الشرعي في التخلف عن الحسين ونصرته، كان يمارس فعل الزيارة أو الرثاء بحبّ لسيد الشهداء مشوب بحزن عميق لما ألمّ بسبط الرسول وابن بضعته، وما حلّ بأهله وصحبه الكرام. أما من يفتقد إلى سلامة الموقف الشرعي في التخلف عن النصرة فكان الندم أول دوافعه وهواجسه في الزيارة والرثاء، ولا مانع من أن يأتي هذا الندم مصحوباً بالحزن والحبّ، وبين أيدينا عدد من الشواهد والأمثلة، نكتفي بواحدٍ منها.
عبيد الله بن الحر الجعفي
تبدأ قصة عبيد الله بن الحر الجعفي مع الإمام عليه السلام من قرار ابن الحر مغادرة الكوفة قبل شهر أو أكثر أو أقلّ من استشهاد الحسين في كربلاء، خشية أن يدخلها الإمام سيد الشهداء ويتخلف ابن الحر عن نصرته، إذ يقول في ذلك مخاطباً رسول الحسين إليه: «والله يا حجاج ما خرجتُ من الكوفة إلا مخافة أن يدخلها الحسين وأنا فيها ولا أنصره، لأنه ليس في الكوفة شيعة ولا أنصار إلا مالوا إلى الدنيا، إلا من عُصم منهم».
حين كان الحسين يسلك طريق العراق في توجهه صوب الكوفة، نزل في منطقة يطلق عليها قصر بني مقاتل، فإذا فسطاط مضروب ورمح مركوز وخيول مضمرة، فقال الحسين: لمن هذا الفسطاط؟ قالوا: لعبيد الله بن الحر الجعفي، فأرسل إليه الحسين رجلاً من أصحابه يُقال له الحجاج بن مسروق الجعفي، فأقبل فسلّم على ابن الحر، فردّ عليه السلام، ثمّ قال: ما وراءك؟ أجاب مسروق: ورائي يا ابن الحر أن الله قد أهدى إليك كرامة إن قبلتها، فقال: وما تلك الكرامة؟ فقال مسروق: هذا الحسين بن علي يدعوك إلى نصرته، فإن قاتلت بين يديه أُجرت، وإن قُتلت بين يديه استُشهدت.
فاعتذر إليه ابن الحر أنه لم يترك الكوفة إلا خوفاً من هذا الموقف كما مرّ في كلامه آنفاً. فجاء الحجاج بن مسروق وأخبر الحسين، فدعا عليه السلام بنعليه فلبسهما، وأقبل حتى دخل على ابن الحر، فلما رآه قد دخل وسلّم، وثب عبيد الله بن الحر وتنحى عن صدر مجلسه، وقبّل يدي الحسين ورجليه، وجلس الحسين، ثمّ قال: يا ابن الحر ما يمنعك أن تخرج معي؟ قال: أحبّ أن تعفيني من الخروج معك.
اقتراح
ثمّ اقترح على الإمام ما يلي: هذه فرسي المحلقة فاركبها، فوا الله ما طلبتُ عليها شيئاً إلا أدركته، ولا طلبني أحد إلا فته، حتى تلحق بمأمنك، وأنا ضمين لك بعيالاتك أؤديهم إليك أو أموت أنا وأصحابي دونهم، وأنا كما تعلم إذا دخلتُ في أمرٍ لم يضمنِ أحد.
إذن هو يقترح على الإمام سيد الشهداء الهرب دون عياله، على أن يتكفّل له ابن الحر إرجاع عياله إلى المدينة، فماذا كان جواب سيد الشهداء؟
قال الحسين: أهذه نصيحة منك، قال نعم والله، قال: إني سأنصحك كما نصحت لي: إن استطعت أن لا تسمع صراخنا ولا تشهد واعيتنا أو وقعتنا أو وقفتنا، فافعل. فوا الله لا يسمع واعيتنا أحد ثمّ لا ينصرنا إلا أكبه الله على منخريه في النار.
إذن، رفض الحسين اقتراح ابن الحر ونصحه أن يبتعد عن دائرة المعركة، وقد التزم ابن الحر بذلك.
لا يفوتنا هنا أن نسجّل انطباع ابن الحر عن الإمام الحسين، وهو يقول: فوا الله ما رأيتُ أحداً أملا للعين ولا أهيب في القلب منه، ولا والله ما رققتُ على أحد قط رقتي على الحسين حين رأيته يمشي وأطفاله حواليه.
معاناة دائمة
على أي حال، تنتهي واقعة كربلاء بالخبر المفجع الذي راحت أصداؤه تملأ أركان دنيا المسلمين، ويصل خبر مقتل الحسين إلى ابن الحر الذي رفض نصرة سيد الشهداء، فتبدأ معاناته ولا تنتهي حتى وفاته.
من صور معاناته هو الشعر الممتلئ بالندم العظيم على ترك نصرة الحسين، حتى جاء في الكتب التي ترجمت له، أنه تداخله الندم حتى كادت نفسه تفيض. من هذا الشعر قوله:
فيا لكِ حسرة ما دمتُ حياً                          
                   تردّد بين حلقي والتراقي
حسين حين يطلب بذل نصري                  
                  على أهل الضلالة والنفاقِ
غداة يقول لي بالقصر قولاً                        
                   أتتركنا وتزمع بالفراقِ
ولو أني أواسيه بنفسي                                
                  لنلتُ كرامة يوم التلاقِ
مع ابن المصطفى نفسي فداه                            
                 تولى ثمّ ودّع بانطلاق
فلو فلق التلهف قلب حي                            
                    لهمّ اليوم قلبي بانفلاقِ
فقد فاز الأولى نصروا حسيناً                      
                     وخاب الآخرون أولوا النفاقِ
مع ابن زياد
بعد الواقعة أقبل ابن الحر حتى دخل الكوفة، فحضر مجلس عبيد الله بن زياد بعد ثلاثة أيام، وكان أشراف الناس يدخلون عليه ويتفقدهم، فلما رأى عبيد الله ابن زياد ابن الحر، قال له: أين كنت؟ قال: كنتُ مريضاً، قال: مريض القلب أم مريض الجسد؟! ردّ ابن الحر: أما قلبي فلم يمرض قطّ، وأما جسدي فقد منّ الله تعالى بالعافية!
قال عبيد الله: قد أبطلت (أي: قلت باطلاً) ولكنك كنت مع عدونا (يقصد الحسين)، فردّ ابن الحر: لو كنتُ مع عدوّك لم يخف مكاني، قال ابن زياد: أما معنا فلم تكن، لم ينكر بل قال: لقد كان ذلك. ثمّ استغفل ابن زياد والناس عنده، فانسلّ منه ثمّ خرج.
قال ابن الدينوري في كتاب «الأخبار الطوال»: «ومضى عبيد الله بن الحر نحو أرض الجبل مغاضباً لابن زياد، واتبعه أُناس من صعاليك الكوفة». فنزل المدائن، وقال: «لئن أستطعتُ أن لا أرى له وجهاً لأفعلنّ».
 وفي قصيدة هجا بها عبيد الله بن زياد وعاد يبث ندمه الشديد على عدم نصرة الإمام الحسين، قال:
يقول أمير غادر وابن غادر                  
              ألا كنت قاتلت الحسين بن فاطمة
ونفسي على خذلانه واعتزاله                    
                   وبيعة هذا الناكث العهد لائمة
فيا ندمي أن لا أكون نصرته                    
                  ألا كلّ نفس لا تسدد نادمة
وإن لم أكن من حماته                      
                 لذو حسرة ما أن تفارق لازمة
سقى الله أرواح الذين تبادروا                  
                إلى نصره سقياً من الغيث دائمة
وقفت على أجداثهم ومحالهم                
               فكاد الحشى ينفض والعين ساجمة
يتضح من الأبيات الأخيرة أنه أنشد هذا الشعر بعد فراره من عبيد الله بن زياد، وتوجّهه صوب كربلاء لزيارة الإمام الحسين وصحبه، وهو في طريقه إلى المدائن.
وفي كتاب «نفس المهموم» قوله: «وحكي أيضاً أنه كان يضرب يده على الأخرى ويقول: ما فعلتُ بنفسي، ويردّد هذه الأشعار».
النهاية
يقول المأرخون: ثمّ إن ابن الحر لم يزل يشغب بابن زياد وبالمختار ابن أبي عبيدة الثقفي وبمصعب ابن الزبير، إلى أن هلك ابن زياد وسيطر المختار على الكوفة، فاختلف مع المختار، ثمّ كانت له قصة مع مصعب ابن الزبير انتهت بمقتله غرقاً بعد أن أُصيب بجراحات عميقة، ليسدل بذلك الستار على شخصية مركبة من شخصيات الكوفة.