عَبّادُ الشّمسِ الذي لكوكبنا

منصة 2023/09/10
...

 رجاء بكريّة


كان زهر عبّاد الشّمس أقوى من شفافيّة الضّوء. يميس ُبلا آخر يمينا، شِمالا ودائما يحتضنُ أبعدَ مسافة مُمكِنة من الحُزَمِ اللّاهبةِ لذلكَ النّهار. كان أصفرُهُ يملأُ العالمُ 

حياة. تابعتُ استِداراتهُ وهي تتدلّل لحُزمِ الشّمس عبر زجاج الحافلة الماضية باتّجاه العاصمة بوخارست. غِرتُ من أناسِ المدينةِ وهم يتمارونَ في نقاءِ اللّون. كلّ هذا الفيض أفرَزَتْهُ أعناقُ زهرةٍ خجولة تعشقُ عبادةَ الضّوء.

الحقيقة، كنتُ متأكّدة من فِكرتي، "لو أنّ العالمَ تآمرَ على زراعةِ زهرةِ عَبّاد الشّمسِ النّادرة في كلِّ زاوية من زوايا القُرى والمُدُن لتغيّرَ شكلُ العالم". لأضاءَ أكثر ربّما وسط العتمة الّتي تغزو كواكبَهُ قاطبة، وكوكبنا البديع تحديدا. كم تحتاجُ الأرض لضوءٍ افتراضيّ كي تسمو؟ سؤال مُؤرّقٌ. وكم نحتاجُ، نحنُ أناسها من أصفَرِهِ كي نُحلِّقَ مثلَ طائرِ القَطرَس فيما وراءَ الحياة ونلتوي، كما تلتوي الشّوارع الضيّقةِ يغمُرها من الجانبين زهراً كثيراً أصفر، ونحنُ نتقدَّمُ من العاصمة. جاذبيَّتهُ العميقة أقنَعَتنا أنّهُ يتسلّقُ الزّجاج ويتمارى فيهِ كي يقنِعَنا أنّهُ الطّاقة الّتي تنقصُ أجسادَنا المُتعبة والمُرهَقة.

كنتُ واثقة من فكرة استدارة الحياة تحتَ كَمِّ أقراصِ عَبّاد الشّمسِ الصّفراء الهائل الّذي دوّخَ فان جوخ وأضاءَ حياتهُ بالأمل. حينَ تستديرُ مستدرجةً بُؤرة الضّوءِ الّتي فيكَ ينبعثُ من الكونِ لغة عجيبة يَرطُنُ بها البشر بكلّ أطيافهِم وألوانهم. من الممرّ السريّ للحياة انسلّ فان جوخ وهو يغرِفُ من زهرِها عميق الفِتنة، فنّا يعرفُهُ قلّة ممّن أكرمت الحياةُ أرواحهم بسرّها، فأضافَ لعُمرهِ أعمارا وهو يصبغُ حياتهُ بها كي يخرج من عتمتهِ. صبغَ أقمشتهُ بلا آخر بحكاياها، وحين نفذت أقمشتهُ اعتلى الضّوء بضوء مُضاعف حتّى لا تتسرّب الحياةُ من بينِ أصابِعِه. حملها في عينيهِ إلى الزّمن الّذي جاء بعدهُ حتّى نشفى نحنُ، بَعدَهُ، من العَمى. 

يقولُ الحُكَماءُ أنّ القلبَ مركزُ الحياة، لكنَّ الحقيقة أنّ العينينِ هما فكرةُ اتّساعِها وخصوبةِ فِتنتها. 

يا ضوءَ لا تتوقّف عن النّبض لِنَرى الحياةَ أجمل. ويُضيفُ العلَماءُ أنّ كوكَبنا قد يخسرُ عسَلَهُ بِفِعلِ سُقوطِ قِطعٍ ملتهبَةٍ بينَ وقتٍ وآخر من عَينِ الشّمسِ العَمياء. يُنظّرونَ للفِكرةِ ولا يُحدّدونَ في أيّ موقعٍ من كَوكَبِنا ستحُلُّ الكارثة. لكنّهُم لم يخرُجوا مرّةً واحِدةً كي يطرًحوا نبوءةً لها علاقة بتأثيرِ الزّهرِ الأصفرِ على جودةِ الحياة، ولا أثارهم تزاحُمَ الأوكسِجينَ الصّافي في الحقولِ البعيدةِ الّتي تمشي الطّريق الطّويل حتّى عاصمة الحياة بوخارست زَخِمةً بأقراصِها وضَوئِها. في أيّام كهذهِ، توزّعُ الهواءَ بِسَخاءٍ على العالم، وتطيلُ من مسافةِ أعمارِنا وأعمارِ كوكبنا ليتوهّجُ دفئا. وكنتُ في مثلِ هذا اليومِ سأقطفُ من ذاتِ الحقولِ عميقة الدّفءِ واللّون بضع أقراصٍ مُضيئة أُرتِّبُها واحدة واحدة على ذراعي وأقدِّمُها عربونَ حياةِ مؤجّلة لأجمل رجالِ العالم، رجل قلبي، في يومِ ميلادهِ. شُكرا لزهرٍ يُقنِعُنا كُلّما تفتّحَ بأنّ كوكبَنا أضافَ جنّةً لمنظومةِ الكواكبِ قاطبةً.