محمد (ص) والإسلام.. من الثورة إلى العالميَّة

منصة 2023/09/17
...


لم يكن ظهور الإسلام في بلاد العرب كأي حدثٍ آخر، بل إنّه اشبه ما يكون بالثورة «بالمعنى المتاخم للمفهوم» التي تأتي على كامل النظام السائد لتطيح به، وتستبدله بآخر أفضل منه وأكثر تحسيناً، فهو قد جاء على أنقاض دياناتٍ تسلل إليها الانحراف والتشويه وتسرب فيها الزيف، ولذا نجد الإسلام وفي خصوص دستوره « هذا المفهوم الأخير بأنه كل ممارسةٍ وتصورٍ لا يمت إلى القوانين الإلهية بصلة، فجوهر أحكامه قائمةٌ على مرويات الوحي، الذي يتنزل باستمرار على صدر قائد تلك الثورة التغييريَّة والإصلاحية، وهو النبي الأكرم محمد (ص)، الذي يضطلع بدور التبليغ عن الله، ونشر الدعوة والإشراف على حركتها وترتيب محطّاتها ومراحلها، فهي رغم كونها فجائيَّة وأمرًا جديدًا في بلاد العرب، إلا أنها كانت تحمل محطاتٍ ومرحلةً وتوقيتاتٍ في الإعلان والترويج والفعل كذلك. 

ناهيك عن أن بلاد العرب لم يكن يقطنها العرب خالصةً فقط، وإنما كانت هناك إلى جانبهم الفرس المسيطرون من جانب على أجزاء من تلك البلاد، ويدبرون منها شؤون حضارتهم، وايضاً كان إلى هناك الدولة البيزنطية، التي تدير الجزء المهيمن عليه من تلك البلاد الشاسعة، التي لم تكن شعوبها قادرةً على الإفلات من تلك الهيمنة، بسبب أحكام سيطرة تلك القوى العالمية آنذاك، وايضاً بسبب العمالة من قبل أسياد المال والتجارة ورجال وكهنة معابد الاوثان والاصنام الذين كانوا اليد الضاربة لتلك القوى، وإلى جانب هذا القول كانت تنتشر، إضافة إلى الوثنية عقائد وأديان اخرى توحيدية مثل اليهوديَّة ومثل النصارى والمجوس والصابئة، وفي مثل هذا التنوع الديني وهيمنة القوى الاستكباريَّة القديمة تلك وقمع السلطات السائدة آنذاك، التي هي أذرعٌ وأجنداتٌ بعث النبي محمد (ص) برسالة الإسلام على كل تلك الديانات والثقافات والقوى، ليعلي كلمة الله وينهض بأعباء التغيير، وفك أسر الناس من العبوديَّة ومحق كل قيم البداوة والتخلف والقضاء على الجهالة، تخيّل معي حجم التراكمات، التي سيواجهها والعقبات  والمطبات، التي سيلقاها وهو يصارع على جبهات متعددة مع قلّة الناصر وما وميتافيزيقا الرؤية التي يحملها «فهي تدعو إلى الإيمان والإذعان في حين ان الناس لم يفقهوا مثل هذا القول من ذي قبل» إذن فالموقف حرج جداً والعقبات كؤودة والمواجهة ستكون شرسةً وصعبة الجوانب كما هو قد حصل فعلاً.

شرع النبي محمد بدعوته مستخدماً مشارط طبيبٍ ماهرٍ للغاية، يضع مباضعه بكل حكمةٍ ودرايةٍ دون أدنى شكٍّ أو ترددٍ قد تفقده البوصلة، مستعيناً بالخلص من أوائل المصدقين له، وهم نفر لا يتعدون الأصابع، ولكنهم كانوا يحملون هموم الناس ويستشعرون آلامهم، ويتحسسون معاناتهم وعلى دراية بحجم المسؤوليَّة، التي صدقوا بها واتبعوا أثر قائدها النبي (ص). 

فكان أينما يضع قدم تنفجر أمامه فخاخ من هنا وهناك، وقد قلنا إن التركة الموجودة ثقيلةٌ للغاية والعقبات صعبة جداً، ولكن إرادة النبي صلبةٌ وقوةٌ قلبه لا مثيل لها على الإطلاق، فالرجل الذي غيّر تلك الشعوب المختلفة وحرر الناس من عبادة الأوثان، ومن هيمنة الاستكبار العالمي «البيزنطي والفارسي»، وصنع من البدو حضارةُ جابت الغرب والشرق لم تنجب النساء مثله قط. 

استطاع النبي محمد (ص) وبخطواتٍ مدروسةٍ ومحسوبةٍ أن يغيّر سوء حال الناس إلى أحسن ما يكون وأقام لهم مدينةً - دولة دوّنت فيها مواثيق ومعاهدات، تشتمل على طرق عيش وتفاهمات للحياة والتعاملات المشتركة، وثبتت فيها عقوبات لمن يخالف ذلك، وبدأ يزحف شيئاً فشيئاً على ثغور القوى العالمية، آنذاك ليزيحها ويقلُّ من نفوذها الجغرافيات التي كانت تسيطر فيها، وكان (ص) يهدم في جهة وينشط بالبناء والتواصل في أخرى، ويحرص على أن يثلم في تلك الأجسام الصلبة، التي كانت موزعة توزيعاً معقداً في تلك الأرض، وتتمنع على الانصياع بل وتحاول التعويق والعرقلة، ولكنّه كان يبادر ويسابق الوقت ليدبر أمرها بالتقليل والحط من خطرها. 

ومع ذلك لم يترك الترويج للإسلام ودعوة الناس للانخراط في هذا الدين، الذي يضمن للناس الحرية المعتدلة والمحسوبة في نطاقات إخلاقيَّة وعقلائيَّة تراعي من بين جماح الغرائز الإنسانيَّة وبين حياة الفطرة السليمة وقوانين السماء التي تنظم سلوك الناس وأعمالهم. 

ففلسفة الإسلام لم تكن أحادية الاتجاه والفعل، وإنما كانت تشتغل على عدة مجالات وتنشط في العديد من المستويات ما بين العلم والفكر والعمل والجهاد، وترويض الذات وتزكية النفس ولم تنس رسالة السماء للنفس نصيبها من الدنيا. 

وكان النبي القائد يشرف على كل ذلك ويدير العمل بنفسه لو تطلب الأمر، ليحرص على نجاحه وبلوغ مقصده دون تردٍ يعرض فيفشل العمل. 

إنَّ عظمة النبي الاكرم فضلاً عن كونها لطفًا إلهيًا خصّه به كانت بسبب ما أحدثه من تغيير واضطلع به من مشروع اصلاحي يهدّم السابق ويقوم بتخليق الجديد وصنع حضارة لشعوب وجغرافيات كانت ترزح في العبودية والإذلال والهوان، ثم بعد ذلك تحكم شرق الأرض وغربها، فدخلت في هذا الدين قوميّاتٌ وأعراقٌ وبلدانٌ كبيرةٌ وتوسعت مساحة انتشار الإسلام في شرقي الأرض وغربها وبدا له تأثير واضح ومهم في رسم السياسات وتشريع القوانين وضمان الحقوق وفرض القيود والادبيات وحضوره لا يقلُّ أهميَّةً عن حضور المسيحيَّة والبوذيَّة من الناحية الجيو ستراتيجيَّة والثقافيَّة، بل وعلى جميع المستويات، وانتشرت تلك الدعوة في أرجاء المعمورة كأنها الهواء، بجلالة اسم ذلك النبي القائد محمد بن عبد الله (ص) وهنا يكمن سر قوته وجلالة قدره ورفعته على الخلائق.