(صبابيغ الآل).. عثمانيَّة التسمية عراقيَّة الجذور والفروع

ريبورتاج 2023/09/19
...

 يوسف المحمداوي

 تصوير: نهاد العزاوي

لم تستعمرني بطواعيتي مدينة كاحتلال ميسان لقلبي وعقلي، وما تأتى هذا الاستعمار المطاع، إلا من خلال إدماني المتواصل لعشق مهد الولادة أو ما يسمى بـ”كاروك الدلول”، محلة الجديدة النابضة في القلب كما القلب، والساكنة في العقل كما العقل، ولا أجد في ما ذكرت ذرة من المغالاة، لكون الأمر ينطبق تماما على المرء، سواء سكن في جنوب العراق أو في الجهات الأربع لبلاد الله في قاراتنا السبع، فكما الطير يعشق عطر عشه الأول هكذا هو الإنسان، مهما كانت أحواله في هذه الدنيا تجد لسان روحه يردد دائما ما قاله الشريف الرضي عن المكان الذي يعشق “وتلفتت عيني فمذ خفيت... عنها الطلول تلفت القلب”.
سعادتنا في ذاكرة مكان

نعم هكذا هو عشق الأمكنة في قلوب البشر، وأنا في صفحة “ ذاكرة مكان” أجد سعادتي لا توصف، بل لا تعادلها أية سعادة في العالم، لكوني في كل ريبورتاج عن مكان أكسب محبة الساكنين فيها كبارا، ومستقبلا أنال محبة الجيل اللاحق لتلك الأمكنة، ومحبة ورضا الناس عنك غاية لا تدرك، فكيف الحال إن بلغتها بهذا الجهد المتواضع كما أعتقد، وبرهاني في ذلك الرسائل والتعليقات التي تصلني من عشّاق هذا المكان أو تلك المحلة، ويعود فضل ذلك بالتأكيد للقائمين على إدارة تحرير جريدتنا الحريصة كل الحرص على ديمومة التواصل، وإظهار مناطق مدننا الحبيبة بالصورة، التي تستحق نقلًا عن تراثها ومناقبها التي تجعلنا في مواقع الزهو 

والتباهي.


التسمية ومرجعيتها

اليوم سنبحر معًا بإرشيف ذاكرة محلة تفرعت إلى محلات، كأنثى حبّاها الله بنعمة وفرة الذرية وصلاحها، إنها محلة (صبابيغ الآل)، وأول الأسئلة الذي يتبادر للذهن ما معنى هذه التسمية ومن أين جاءت؟ 

يجيبنا المتخصص في المحلات البغداديَّة الباحث رفعت مرهون الصفار بمقالٍ إعلاميٍّ منشور، إن اسم المحلة  كما ورد في هوية الأحوال المدنية لوالده الصادرة عن الحكومة العثمانية كان (آل بريجلر) وبالتركية الـ(آل) تعني اللون الاحمر القرمزي، و(بريجي)، تعني الصباغ، و(لر) تعني للجميع، فيكون الاسم باللغة العربية (صبابيغ اللون الأحمر)، وهو اللون السائد في تلك الفترة لصباغة الأخشاب، كما بيَّن لنا السيد مختار المحلة “نجم مراد نور محمد”، الذي أتحفنا بحديثٍ مطوّل ارتوينا منه بكنزٍ من المعلومات المهمة، ولاختصار التسمية سميت (صبابيغ الآل) لكون معنى (الآل) بالعربي اللون 

الأحمر. 


ما بين (زبيدة) و(الوثبة)

ترجلّنا من مهرتنا (التكتك) أنا والزميل نهاد العزاوي في ساحة زبيدة، وجهتنا صوب محل لبيع دراجات الشحن والهوائية، الذي يمتلكه أحد أصدقاء مصورنا وهو (مجيد ما شاء الله) والمعروف بـ”أبو هدى”، ولكون محله يقع وسط شارع الوصي الرابط بين ساحتي زبيدة والوثبة، فهو يعرف كل صغيرة وكبيرة عن المحلة وساكنيها الأصليين، علمًا أن شارع الوصي الحالي هو نفسه (دربونة السويدان)، التي أشار إليها الصفار في مقاله الاعلامي ولكنه لم يتطرق إلى تسميته الأخيرة، والذي وضح لنا الأمر هو السيد المختار الذي كان موسوعةً تأريخيَّةً مهمة لتأريخ محلة (صبابيغ الآل)، والمحلّات المحيطة بها والمتفرعة منها، ولولا جهود السيد (أبو هدى) لم نتعرف على مرجعية الموضوع مختار المحلة السيد(نجم مراد نور محمد)، فالشكر لهما على ما قدماه لنا من معلوماتٍ مهمّة جعلت من موضوعنا يتبختر زهوا بما اكتشفه من ثراءٍ تأريخي لتلك المحلة وأسماء رموز ساكنيها الأوائل.


تعددت الأديان والرب واحد

يقول (أبو هدى) صاحب محل للدراجات الهوائية “إن سكنة المحلة لم تقتصر على قوميَّة أو دينٍ أو طائفةٍ بعينها، بل هي خليطٌ متعاشقٌ منذ عشرات السنين، فقد سكنها العرب والأكراد والمسيح والصابئة واليهود، وهناك عكد خاص للنصارى، ويسمى باسمهم ليومنا هذا، لذلك تجدها من ضمن المحلات العراقيَّة التي لم يطلها التهجير أبدا في زمن الاحتقان الطائفي، الذي عاشته البلاد أبعد الله عن وطننا وشعبنا كما يبين محدثنا، الذي كنّا نواكب على سؤاله كلما رأينا رجلا متقدما في العمر (هل هذا من سكنة المنطقة القدامى؟) فكان رده بأجوبة عدة، منها على سبيل المثال لا الحصر (هذا مشترٍ قادم من المحافظات)، (هذا قبل عشرين سنةً سكن بالمنطقة)، (صاحب محل جديد فتحّه بالسبعينيات) وغيرها من الأجوبة التي توحي لنا بأن سكنة المنطقة الأصليين لم يعد لهم وجودٌ، إلا في حالات نادرة، وهذا الأمر سوف تحسمه وتوضحه تصريحات 

بعض محدثينا أثناء الاستطلاع. 


صالتا سينما وحمامان

بيّن لنا (أبو هدى) أن شارع الوصي قبل أن يتحول إلى محال لبيع دراجات الشحن والهوائية، كان عبارة عن مجمعٍ لمحال بيع الفلّين، الذي يستخدم كعوازل بناء أو في ما يسمى واجهات (المارابلكس)، موضحًا أن المحلة وإلى عهدٍ قريبٍ تميزت بوجود حمامين، الأول حمام التميمي النسائي، والثاني حمام التميمي الرجالي، وفي المنطقة ايضا توجد سينما الفردوس بفرعيها الصيفي والشتوي، وللأسف كما يذكر محدثنا بأنها تحوّلت إلى مرأب للسيارات بعد أن كانتا داري استراحة ومتعة لأهالي المحلة.

عرجنا مع مرشدنا إلى داخل تلك المحلة من خلال أزقة ودرابين تتلوى كالأفاعي داخل تلك البقعة الجغرافية، التي تحتضن البيوتات القديمة والحديثة عمرانيا، فهنا أفعى- عفوا-زقاقا تلاصقت عليه دورٌ شناشيليَّة العمران، وآخر تعاشقت به بيوتاتٌ حديثة البناء كتب على بعض أبوابها عبارات تحيلك إلى نقاء وطيبة ساكنيها، ومثال ذلك (هذا من فضل ربي)، (ما شاء الله)، (عين الحسود بيها عود) وغيرها، وبين تلك الدور أو من دواخلها توزعت أنواع المحال الصغيرة والكبيرة للمواد الغذائيَّة، للنجارة، لبيع أدوية الأعشاب الطبية، مقاه، مطاعم، حلاقة، قصابة، ندافة، صيدليات و.. إلخ من متطلبات حياة أهالي المحلة، بل بعض البيوتات تحولت إلى مخازن لحفظ مواد المحال والمعارض التجاريَّة الكبيرة التي افتتحت قريبا من المحلة. 

هجرة أثرياء المنطقة

أثناء توجهنا صوب مختار المحلة التقينا باب جامع (الهادي بادي) المتأسس عام 1863 بأحد سكنة تلك الصومعة التراثيَّة المهمّة في تاريخ العاصمة السيد (عبد علي محمد)، الذي أوضح لنا بأن أغلب أبناء المنطقة، وبالتحديد من ميسوري الحال هاجروا إلى خارج العراق أو إلى إقليم كردستان، ومنهم على سبيل المثال كما يقول محمد (بيت أبو التمن، وبيت مصطفى كبه وأخيه عبد الغني، الشهربلي، الغبان، وجواد الساعاتي وأولاده، والبحراني، مهدي الخاصكي، والسادة بيت الصندوق) وغيرهم من الأسماء الذين، كان لهم الفضل في أحياء تلك المحلة اقتصاديا وتجاريا، مؤكدًا أنه لم يتبقَ من سكنتها سوى أصحاب الدخل المحدود بحسب 

قوله.

(جابر محمد سيد حسن) صاحب محل لبيع المواد الغذائيَّة الواقع قبالة جامع المصلوب أكد لنا بأن الجامع يعود إلى بيت الحيدري وبالتحديد للسيد محمد، والمتوكل عليه الآن هو ولده سيد حسن الحيدري، وسمي بالمصلوب لكون الساحة التي بني عليها الجامع كانت إبان الحكم العثماني كان الجيش التركي ينفذ بها عقوبة الإعدام بحق كل من يعارض سلطتهم أو الذين يدانون بجرائم اخرى تستحق تلك العقوبة، استنادا لقوانينهم 

العرفيَّة.


مختارٌ بمعنى الكلمة

وصلنا إلى غايتنا وهو محلٌ صغيرٌ جدا، لكنه كبيرٌ جدا بالموسوعة، التي يحتضنها وهو مختار المحلة السيد (نجم مراد نور محمد) الذي زوّدنا بمعلوماتٍ نادرة، فضلا عن تزويد جريدتنا “الصباح” بنسخةٍ تاريخيَّةٍ نادرةٍ لخريطة المحلّة والمناطق المجاورة، وهي عبارة عن مخططٍ عامٍ أعدّه الدكتور (حمدي التكمه جي) لمحلة (صبابيغ الآل)، قبل فتح شارعي الكفاح والجمهورية وساحة الوثبة، مبيّنا في تلك المخطوطة، ليست جغرافية المنطقة، بل وزع فيها الأسر المعروفة كل بحسب سكنها وهنا تأتي أهميتها.

مختار المحلة السيد (نجم مراد نور محمد) الذي استقبلنا في محل عمله الصغير جدا كما أسلفنا أشار إلى أن محلة (113)، التي تقع ضمن مسؤوليته تشمل المناطق التالية وهي “صبابيغ الآل، الهيتاويين، القشل، سوق الغزل، الدهانة)، موضحا أن محلّة (الهيتاويين)، سميت نسبة للسيد محمود ابن الحسن الهيتي، الذي كان يدرس التلاميذ بمرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني، ومن تلك المنطقة برزت أسماءٌ أدبيَّة ورياضيَّةٌ كبيرةٌ وكثيرة كالعلامة مصطفى جواد، والكثير من وزراء العهد الملكي كوزير التجارة جعفر أبو التمن، بيت أبو شعير وزير الاتصالات والرياضيين (المصارع عباس الديك، ولاعبي كرة القدم علي حسين محمود، وشقيقه محمود حسين محمود، وقاسم محمد أمين”أبو حمرة” وغيرهم)، أما (القشل) والحديث للمختار هو معسكر للمدفعية التركية، الذي تحول في ما بعد لمنطقة سكنية، اما سوق الغزل فكان منطقةً لتجمع بائعي الغزول والصوف، وتحول الآن إلى منطقةٍ سكنيَّة وسوقٍ لبيع أنواع الطيور والحيوانات النادرة، ومنطقة (الدهانة)، جاءت تسميتها، لكونها مكانًا لتجمع بائعي الدهن الحر القادمين من محافظاتٍ 

عدة.

تصنيفات الصفّار

ذكر لنا الصفار في كتاباته عن المحلة الكثير من المسميات، لكنه لم يشر إلى تفسيرها كما وضحها لنا المختار، وعلى سبيل المثال لا الحصر (القاطرخانه)، الذي قال عنها المختار إنها مرأب يقع في ساحة الوثبة لنقل القوات التركية، لكن لا يعني هذا إلغاء دوره في توضيح الكثير من الأمور الغائبة عنا، فهو قسّمها إلى تجاريَّة واقتصاديَّة وصناعيَّة وزراعيَّة وصحيَّة، مشيرا إلى أسماءٍ بارزةٍ ومهمّةٍ في جميع تلك الفروع التي ذكرها.

“ يلي نسيتونه...يمته تذكرونه”

 لا ننسى أن الإعلاميَّة أيسر الصندوق العاملة في المركز الثقافي البغدادي في القشلة هي من أبناء تلك المنطقة، وتعود بالأصل لجدها (السيد صادق السيد عباس محمد سليم الصندوق)، التي أوضحت معتمدةً بتصريحها على معلومات مهمة للباحث رفعت مرهون الصفار بقولها عنه :” إنّ جزءًا من المحلة كان قائماً على الصناعات الشعبيَّة، التي عرفت بها بعض الأسر كالغزل والصناعة. لذا انتبه الوالي نامق باشا عام 1850 إلى هذه الظاهرة فأسس معملاً للنسيج خاصًّا بملابس الجنود والخيام، ثم تطور هذا المعمل عند تولي مدحت باشا ولاية بغداد إلى معمل (نسج العباءات والأقمشة الصوفيَّة والقطنيَّة) والعباخانه عندما دخل الإنگليز بغداد استغلوا مبناها، لتكون محطة لتوليد الكهرباء، فكانت هذه المحلة من أوائل المحلات التي مدت اليها الإنارة الكهربائية.

لا أدري وأنا أغادر المحلة، لماذا تذكرت المقام العراقي وسيده الفنان الكبير محمد القبانجي، وكأنه يردد مع بيوت المحلة معاتبًا أهلها الذين غادروها: 

“يلي نسيتونه...يمته تذكرونه

عيني يأهل الآل... موتعبيتوا الحال....لا جيه لا مرسال

يمته تفرحونه....يلي هجرتونه”.