السكن... أزمة مزمنة وحلول ضعيفة

ريبورتاج 2023/09/21
...

 احمد نجم

لا يبدو أن هنالك نهاية قريبة لحسم أزمة السكن التي يعاني منها معظم العراقيين أو التخفيف من آثارها، فالأزمة أصبحت مزمنة، وتزداد بمرور الوقت خاصة مع النمو السكاني المستمر، كما أن الخطط والوعود الحكوميَّة فقدت أثرها في الشارع العراقي بفعل التجارب الفاشلة السابقة التي تعمقت خلالها أزمة السكن بدلا من أن تتقلص.
بالنسبة لذوي الدخل المتوسط فإنَّ الحصول على سكن لائق أمرٌ أقرب للمستحيل خاصة في الأحياء المتوسطة للعاصمة بغداد، والأزمة لا تقتصر على بغداد فقد ذكرت تقارير صحفيَّة أنَّ شارع الطابو وسط بعقوبة وصلت أسعار الأراضي فيه إلى مستوى يؤهله ليكون أحد أغلى المناطق في الشرق الأوسط، أما في بغداد مثلًا فوصل سعر المتر المربع الواحد لأكثر من سبعة آلاف دولار في بعض الأحياء.


تكتلات السكانيَّة

أزمة السكن تركتْ آثارها ومضاعفاتها في ملفات عدة، فبسبب الزيادة الجنونيَّة في الأسعار لجأ العراقيون إلى تجزئة الوحدات السكنيَّة الكبيرة وشطرها إلى مساحات تصل أحيانا إلى 50 مترًا مربعًا مسبّبة بذلك فوضى في التخطيط العمراني للمدن والمخاطر الاجتماعيّة لزيادة التكتلات السكانيّة، كما ازداد الضغط على الخدمات العامة مثل شبكات الكهرباء والمياه والمجاري.

تقلّصت المساحات الخضراء أيضًا بنسبة 75 % في العاصمة بغداد بحسب مختصّين، فضلا عن التمدد العشوائي باتجاه البساتين والأراضي الزراعيّة ملحقة ضررًا زراعيًّا وبيئيًّا بانتْ آثاره الواضحة مع ارتفاع درجات الحرارة وتصاعد موجات الغبار.

تقدر وزارة التخطيط بحسب بيانٍ صدر عنها خلال الشهر الماضي عدد المجمّعات السكنيَّة العشوائيَّة في العراق بـ 4679 مجمعًا سكنيًّا يسكن فيها نحو 3 ملايين و725 ألف فرد، ضمّت العاصمة بغداد وحدها أكثر من ألف مجمع سكني عشوائي، كما أنَّ المسح لم يشمل محافظتي الانبار ونينوى واقليم كردستان.

رئيس الوزراء أكد بتصريحات رسميَّة بتاريخ السادس من حزيران الماضي بأنَّ نحو 9% من سكان العراق يسكنون في المناطق العشوائيَّة وأنَّ حكومته وضعت حلَّ أزمة السكن كأولوية وأشار إلى التوجه نحو بناء مدن سكنيَّة جديدة خارج المركز في الوقت الذي انتقد فيه بناء المجمّعات السكنيّة داخل المدن معتبرًا أنَّ سلبيات ذلك "ستظهر مستقبلًا".

بحسب رؤية وزارة الإعمار والإسكان فإنَّ البلد بحاجة لـــ 3 ملايين وحدة سكنية وصولًا للعام 2030 للسيطرة على أزمة السكن الخانقة، وهو رقم كبير جدًّا يتطلب سنوات من العمل الجاد والمدروس خاصة في ظلِّ النمو السكاني المرتفع اذ يزداد سكان العراق سنويًّا من 850 ألفًا إلى 1.250 مليون فرد، وفقًا لوزارة التخطيط التي توقّعت أن يصل مجموع السكان نهاية العام الحالي إلى 43.25 مليون نسمة.


الفجوة تزداد

يُعيد الخبير الاقتصادي نبيل العلي جذور الأزمة إلى تسعينيات القرن الماضي اثر التدهور الاقتصادي الذي شلَّ قدرة الدولة على التوسّع في إنشاء المدن.

وفقًا للتميمي فإنَّ سنة 2002 كان في العراق ما يقرب من 3.25 مليون أسرة وكانت الفجوة بين الوحدات السكنيّة وعدد الأسر محدودة، لكن الفجوة تلك استمرت بالازدياد حتى اللحظة، يبلغ عدد الأسر العراقيّة اليوم بحسب متابعة التميمي إلى ما يزيد عن 8.25 مليون، وهذا يعني أنَّه خلال العقدين الماضيين نشأت الحاجة لاكثر من 5 ملايين وحدة، تمت تغطية معظمها عن طريق شطر وتجزئة البيوت إلى وحدتين أو أكثر وخصوصًا في العاصمة بغداد، ومن خلال المجمعات العشوائيَّة.


ويؤكد التميمي بأنَّ السياسات الإسكانيّة قد "غابت لأكثر من عشر سنوات ما بعد ٢٠٠٣، لم يكن الإسكان من الأولويات الحكوميَّة، إذ اقتصرت السياسات السكانيّة للفترة منذ ٢٠٠٣ لغاية ٢٠١٤ على تبني الدولة بناء مجمعات سكنيّة ممولة من قبل الموازنات العامة، ولم تستطع الحكومات بناء ما يزيد عن ١٥ ألف وحدة سكنيّة طيلة تلك الفترة بمجمعات منتشرة في المحافظات".

أما بعد عام 2014 فإنّ التوجه اصبح واضحًا باتجاه إنشاء مجمعات سكنيّة عن طريق الاستثمار، لكن بعض السياسات الداعمة لمشاريع الإسكان ومنها قروض المبادرات الخاصة بالبنك المركزي الذي تُمنح بموجبه قروض منخفضة الفائدة للراغبين بشراء الوحدات السكنيّة أدت "الى تزايد أعداد المستثمرين في مجال قطاع الإسكان، لكنّها اسهمت أيضًا باستغلال المستثمرين لأسعار الوحدات" بحسب التميمي.

ويشير إلى أنَّ الأزمة تتركز أكثر في المدن الكبيرة مثل بغداد والموصل والبصرة، أما في كردستان وبالأخص في اربيل ودهوك فقد عملت حكومة الاقليم على فتح مجالات الاستثمار في قطاع السكن بصورة مبكرة، وطورت أربيل ودهوك من معالم المدينتين من خلال مشاريع الاستثمار، وانخفضت الأسعار بفعل المنافسة ومحدوديّة الطلب، حتى باتت الأسعار اليوم مقاربة لأسعار الكلفة. ورغم اتجاه أربيل لاستقطاب المستثمرين وأيضًا للمشترين للوحدات السكنيّة من خارج كردستان، فما يزال العرض أوسع من الطلب.


مجلس أعلى للسكن

أستاذ الاقتصاد في جامعة بغداد الدكتور صادق البهادلي، يضع يده على الاجراءات البيروقراطية والفساد والابتزاز الذي يصاحب مشاريع الإسكان، إذ يرى بأن "أي مشروع للسكن يحتاج إلى المرور على خمسة مؤسسات للدولة، البنك المركزي العراقي وأمانة العاصمة ووزارات التخطيط والمالية والإسكان، والحصول على الترخيصات اللازمة يتطلب موافقة كل هذه المؤسسات، فضلا عن هيئة الاستثمار في العاصمة أو المحافظة حتى تحصل على إجازة المشروع، وهذه هي عين البيروقراطية، يضاف إليها الفساد الكبير والابتزاز الذي يتعرّض له المستثمر أو المقاول".

ويؤكد البهادلي لــ (الصباح) بأن "لا حلول لأزمة السكن إلّا بمجلس أعلى للسكن يقوده رئيس الوزراء ليكون النافذة الوحيدة لمنح التراخيص، ومعالجة البيروقراطية والفساد والابتزاز".

ويرفض البهادلي بشدة التعويل على القطاع العام في حل أزمة السكن ويعدها "ضربًا من الخيال" إذ إنَّ لا حلول "إلا بقطاع خاص يبني المجمعات السكنيّة بدعم حكومي وإجراءات اداريّة مبسطة ويمكن للقطاع المصرفي العراقي العام أن يسهم في حلِّ الازمة من خلال توفير القروض الميسرة"، مستشهدًا بنجاح تجارب عدة حصلت في بغداد وبعض المحافظات من خلال قيام مقاولين صغار بإفراز دونمات زراعيّة وايصال خدمات الكهرباء والماء وتعبيد الطرق لها لتصبح لاحقًا مناطق سكنيّة عامرة وأسعارها تفوق أحيانًا أسعار العقارات المملوكة "ملك صرف".


المصالحة العقاريَّة

يشكك الخبير المالي مصطفى حنتوش بجديّة الحكومات المتعاقبة في تطبيق خططها للإسكان، إذ يرى بأن مشاريع الإسكان تكون حاضرة في البرنامج الحكومي ولكن "من دون أن يتمَّ وضع تخصيصاتها الماليّة في الموازنة، مثلما حصل مع مبادرة داري في الحكومة السابقة ومشروع ايصال الخدمات لخمسمئة ألف قطعة سكنيّة في الحكومة الحالية".

ويشير أيضًا إلى العشوائيّة في 

توزيع القطع السكنيّة في الفترات السابقة من دون التخطيط الواضح وايصال الخدمات وربطها بخطوط الكهرباء والماء والمجاري حتى تكون صالحة للسكن وتمتص جزءًا من الأزمة.

بالنسبة لحنتوش فإنّه يدعو إلى إقرار المصالحة العقاريّة من خلال قانون تمليك القطع الزراعيّة البالغ عددها نحو 2.5 مليون قطعة ومشيد عليها 1.5 مليون وحدة سكنيّة تقريبًا مقابل مبالغ مالية محدودة من المستفيدين وشمولهم بالخدمات كاملة واستيفاء مبالغ الجباية منهم، إذ يرى في ذلك حلًّا نموذجيًّا للتخفيف من العشوائيّة في معالجة أزمة السكن.

يرجّح الكثير من المراقبين أنَّ الفساد الاداري وعمليات غسيل الأموال قد دفعا باتجاه الاستثمار بالعقار، ومن ثمّ رفع قيمته إلى أرقام تكاد تكون خيالية في بعض الأحيان، إذ تتضاعف أسعار بعض العقارات عدة مرات خلال سنوات قليلة، كما أنَّ تراجع الثقة بالنظام المصرفي شجع المواطنين أيضًا على الاستثمار بالعقار للحفاظ على قيمة أموالهم.

وبينما تتكثف الوعود والخطط الحكوميّة الرامية لحل أزمة السكن الخانقة تزداد الأسعار أيضًا غير آبهة بالبرامج الحكوميّة وبالالتزامات التي تطلقها، فقد تشبّع السوق العقاري بها واتخذ طريقه نحو التحليق بعيدًا عن أحلام محدودي الدخل والقاطنين في الأحياء العشوائيّة.