«24فريم».. ضآلة الانسان أمام سطوة الفناء

الصفحة الاخيرة 2019/05/07
...

علي الياسري 
"أتساءل دوما الى أي مدى يهدف الفنان لتصوير الواقع للمشهد".
يفتتح عباس كيارستمي فيلمه "24 فريم" باستفهام يبدو انه استغرق حيزاً كبيراً من افكاره ووقته. تساؤل يشرع العديد من النوافذ على فلسفة الصورة، معيداً بذلك للذاكرة تأويلات رولان بارت البنيوية ومفاهيم بازان التعريفية وقراءة سوزان سونتاغ المغايرة. 
من خلال الصور المكتفية بذاتها يحاول كيارستمي ان يساوق مفاهيم الفن التركيبي (انستليشين ارت) كنظرة تجريبية لما بعد السينما بشكلها الكلاسيكي، مع شيء من فلسفة جيل دولوز عن الصورة، حيث يكون الابداع الفني تعبيراً فلسفيا مبتكراً، يدفعه للحدود القصوى تنظير مُفكر سينمائي يتعمق بصريا في معادلة (الصورة- الحركة، 
الصورة - الزمن). 
يسعى المخرج الايراني الشهير الذي تذوق طعم الكرز قبل ان تحمله الريح في خاتمة مسيرته السينمائية لمكانه الاثير وسط الطبيعة بآخر افلامه لاستقراء الواقع السابق واللاحق للحظة الزمنية المسجلة، وذلك من خلال كسر الايهام الذي أسرت فيه الصورة الزمن، ليخلق حدثا قصصيا قصيراً – اربع دقائق ونصف وقت كل فريم- عبر تحريك الموجودات ضمن تكوين الإطار، ساعيا نحو تشكيل صوري يرسم به الضوء الذي اتسعت له عدسة الكاميرا حروف لغة الحكاية المروية في كل مشهد. 
يتأمل الفيلم برؤية شخصية للذات تنعكس بصرياً بتطلع نحو العالم المحيط على شكل موتيفات تستهدف الاستغراق في اطلالة معمقة حول جوهر الوجود والعيش والنظرة للحياة والمشاعر التي تتعدى حدود البشر الى بقية الكائنات، ارث فوتوغرافي اجتمع لكيارستمي على مدى عقود من رحلات تنقية النفس في احضان الطبيعة، يستخدمه في تركيب دوال بصرية تعكس تعبيرات الموجودات وافعالها الحياتية في تكوين كل إطار، حيث تتكرر عناصر كالطقس الشتائي العاصف والحيوانات والطيور المختلفة والنباتات كالأشجار والحشائش والامواج الضاربة على ساحل البحر. 
تكرار لا يفقد معه كل فريم قدرة طرح نظرة جديدة تستوعب عددا من هذه العناصر في حيز الحدث ضمن الإطار. لا ينسى ايضا ان يشير الى وجود الانسان رغم تهميشه في حاشية الصورة بتلك اللمسات التي تشير لفعله كالحواجز او الاكواخ على البحر او النوافذ والجدران المطلة على فضاء الطبيعة او افعاله التي تؤثر في الموجودات الاخرى. وللنوافذ حضور بتوقيتات محسوبة ليذكرنا باستمرار انها كُوى للتأمل في الحياة وكائناتها، وبأفعال العيش التي تنفتح بصريا على خط الزمن لتأسر بالصورة حركة معينة، فتوهمنا انها امسكت الوقت وعنق اللحظة. 
لأن فيلمه يخلو من اي حوار او سرد تقليدي يضع لنا عباس كيارستمي دلالة مفتاحية من خلال اول إطار الذي يستخدم فيه لوحة بيتر بروغل الاكبر (الصيادون في الثلج). هكذا يستدعينا لقراءة فلسفة الفنان الفلمنكي حتى يستطيع المشاهد استيعاب افكار فريمات فيلمه الثلاثة والعشرين الباقية من خلال فهم ثيمات اللوحة. بروغل الذي جعل المنظر الطبيعي قلب اعماله حيث تنبثق على القماش عناصر كثيرة تمثل حياة النبات والحيوان وطبيعة الطقس وتبدل المناخ لتكون جوهر العمل الفني، في حين يغدو الانسان كالجزء الاقل حضوراً في تكوين اللوحة بمفهومها الشامل. لان الحضور البشري وفق فلسفته لا ينفصل عن كونه منضويا تحت عنوان البزوغ والافول كسائر احوال الطبيعة وكائناتها. فتتلخص مسيرة حياتها من الولادة والنمو والازدهار حتى الذبول والشيخوخة والموت، يتقلب فيها وجوده 
وفق عامل الزمن على اوجه الجمال والقبح والنضارة والاضمحلال. 
امر يعبر عنه بروغل بانفتاح منظور السماء الشاسع، حيث يبدو الانسان صغيرا ازاء العالم المحيط. فيما تُظهر تبدلات احوال الطقس النهاية المحتومة للأشياء. وبالتالي يبدو الغراب منسجما كدلالة رمزية لقتامة الموت. ان هذه العناصر المجتمعة في صلب منهج بروغل الفني بالرسم فهي اسس تتكرر في كل الصور التي استخدمها كيارستمي لبناء افكار اطاراته التالية. وهنا تبدو وحدة الموضوع جلية فيتضح خط يربط بين الموضوعات المتنوعة. فالإنسان لا يظهر متجسدا سوى مرة واحدة في الفريم 15 بمشهد يحتفي بالحياة، تتناغم فيه اطلالة مستغرقة لرجال ونساء كبار على برج ايفل في العمق، بينما تتقاطع خلف ظهورهم على جادة الطريق مسارات العيش والمزاج العام تدعمها اصوات وقع الحياة وتبدلات الطقس الممتزجة بالموسيقى. لا يكتفي المخرج بالتعبير عن الفعل النقي للطبيعة والموجودات بل هو في الاساس يوجه تحية للسينما التي جمع على شريطها ذات مرة الانسان وأجمل تعبيرات الطبيعة الورد بمشهد ايقوني لفيلم close-up يترافقان فيه بفعل حركة برحلة لتقديم العاطفة الأسمى. فرمزية الرقم 24 واضحة في الاشارة الى معدل سرعة شريط السليلويد في الثانية. احتفاء بالصورة المتحركة التي فتحت فضاء الخيال للباحثين عن الحقيقة مثل كيارستمي بفيلمه هذا الذي لا يتردد فيه باستخدام كل عناصر السينما الجاذبة كالتنقل بين الابيض والاسود للألوان واللعب على درجات الظل والضوء، دون ان يغفل ابراز اهمية المؤثرات البصرية والصوتية. 
ان بحث كيارستمي عن ماهية الوجود استقر في النهاية بمحطة اليقين نفسها التي بلغها بروغل قبله، حيث تتصاغر الموجودات واولها الانسان امام سطوة الفناء، قبل ان تنبثق من جديد بمسار حياة اخرى تتنقل فيه دراما العيش بين احاسيس ومشاعر مختلفة، كالحب والخوف والصخب والهدوء والرغبة وافعال الغريزة بين جوع وسطوة وتملك. امر يمكننا العثور عليه كعنوان شعوري لكل إطار. فهناك الحب الذي لا يعبأ بكل الظروف القاسية كحالة الحصانين وسط عاصفة ثلجية (الفريم 2)، او لهفة العاطفة كما في حكاية الايائل الهاربة من الصيادين (الفريم 4)، او رغبة ممارسة الحب رغم سوء الطقس مثل ذلك الاسد واللبوة (الفريم 9). ويبدو كيارستمي تفاؤليا حين وضع الاصرار على الحياة والاحتفاء بها عنوانا عريضا يحسه المشاهد لعديد الاطارات كما في الفريمات (7،8،12،3،15)، وللفناء وقسوة الموت حضور كما في المشهد الخامس اصطياد الغزال، او الإطار الثالث عشر قتل النورس على ساحل البحر. فيما بدا الخوف شعورا مرادفا لأحاسيس اخرى في عديد الاطارات أبرزها الفريم العاشر حيث الحملان المجتمعة حول شجرة وسط عاصفة ثلجية، يحرسها كلب وهي مرتعبة من الطقس والذئاب المتربصة. 
ان هذا المظهر النقي للأحاسيس والمشاعر اكتملت صورته عند عباس كيارستمي،  إضافة الى الدرامية التي تقدمها الاغاني كفعل فني داعم لتكوين المشهد ليمثل الذروة العاطفية التي ينهي بها الحب اخر فريمات فيلمه، لكنه قبلها يحلق على اجنحة هذا الاستخدام الامثل حين يصدح صوت مغنية الاوبرا ماريا كالاس التي تواجدت بأكثر من اطار (6، 12) كبريق تعبيري يندفع للواجهة بذلك الحس الدرامي المتنقل على دفقات المشاعر المتباينة حيث تجتمع الفنون بمظاهر الصوت الاوبرالي، فيحث على غواية التهاوي مع ندف الثلج المتساقط، او التحليق بأجنحة الطيور المعانقة للرياح المداعبة للشجر، او ركوب موجة لا قرار لها، في رحلة تضعنا على حافة سرمدية لصخب الحياة وصمت الموت.