د.عواطف نعيم*
منذ بداياته وهو يمتد عبر العصور في كل تحولاتها وتبدلات أزمانها وما مر عليها ويمر من تقلبات ومتغيرات، وهو ينفتح ويتحور ويتأقلم ليحيط ويستقبل ويتلاقح مع كل الهزّات والتقاطعات التي تمّور بها البلدان وتتخبط بين تذبذباتها المجتمعات، هو المسرح والذي منذ ابتكاره على يد بشري أراد أن يرفع صوته ويعلن وجوده وتنوع نهجه، فكان إن ابتكر عالم البوح المرئي والمسموع وأطلق عليه اسم المسرح، ومنذ اعتلى (ثيسبس) عربته متجولا بها مترنما بأشعاره وعازفًا موسيقاه وجامعا الناس من حوله بأحاديثٍ من عسل الأماني وحكايات من سحر الرؤى والمسرح يترسخ ويتحول من عربةٍ متنقلة إلى صرحٍ ثابتٍ وفضاء متمركز في حياة البشر. المسرح ومنذ أن أصبح الناس يلوذون به ويتجمعون فيه ويتطلعون إليه برقابٍ مرفوعةٍ وعيون محدقة وقلوب تخفق وتتخيل أنها تسبح مع تلك الأصوات، وتحلق مع تلك الاجساد التي تتماوج فوق خشبته وتحاكي الابطال وتجترح المعجزات وتمس الوجدان، وهي تقدم عرضا يأخذ نبضه من القلوب التي تخفق له متابعة ومتشوقة منذ ذلك وهو يدخل بمهارة واجتذاب إلى ضمائر الناس ليغدو جزءا من حياتهم. المسرح وعبر زمنه من عمر الحضارة الاغريقية حتى يومنا هذا مع الحروب وتناطح القوى وتعدد مصادر القرار وتمدن المصطلحات من النهب واللصوصيىة إلى الاستعمار والوصاية ما بين عوالم متعددة الصفات بين رأسماليَّة مستبدة واشتراكيَّة منفتحة في الشراكة والاقتسام وعوالم مغلوبة من صنفٍ ثالث ورابع تحت سن الوصاية والإذعان والمسرح يقف في خضم كل هذه التحولات محاولا التخفيف والتقريب والتوعية.
المسرح ولطالما أتعبنا التفكير فيه ولطالما نظّرنا له بوصفه وعي حضارة، ولطالما حاورناه واسميناه مدرسةً للتعلم وجامعة للتوعية والتنوير، ولأنه المسرح المظلّة التي تجمع الناس على اختلاف ألوانهم وانتماءاتهم أقمنا له المهرجانات ووزعنا الدعوات وخلقنا التنافسات وجئنا بمن يحّكم وبمن يقّوم وبمن يقيم لنعرف الأفضل ولنكتشف المبتكر والمجدد، فما الذي نظنه في المسرح؟ كيف يكون؟ كيف ينمو ويكبر؟ بمن ومع من يكتمل؟ ولأجل من يتواصل فعله ويستمر؟ ونحن حين نتحدث عن المسرح كواجهة حضارية تتمثل فيها ومعها عناصر وأنساق تتضافر مع بعضها، لتكون تصورًا دراميًّا ينتظره الآخرون ويتفاعلون معه، ويأخذ هذا التفاعل والتلقي أشكالا عدة، وينتج وجهات نظر تتضارب أحيانا وتجتمع في أحيان أخرى. وهناك على الجانب الآخر من ينظم ويخطط ويتوقع، لكي يكون ذلك النسيج المقدم من الفعل المحاكي موضع الترحاب والقبول في التلقي، ولن تكتمل تلك العملية لفعل المحاكاة ذاك إن لم تكتمل عملية الحضور والتواصل قبولا وقناعة أو رفضا وابتعادا. وهنا لا بد من سؤال يطرح: من هو الذي يكتمل الفعل المسرحي بوجوده داخل فضاء المسرح، كيفما كان، ذلك الفضاء الحاضن مسرحا دائريا أو مفتوحا أو علبة ايطالية أو أسطبلا أو مكانا أثريا أو شارعا، وأيا كانت طريقة التقديم كلاسيكيَّة، تقليديَّة، تجريبيَّة، كوريكرافيَّة أو تتبع أي مدرسة من مدارس الأداء الفنية وأيا ما كانت تنتمي اليه في آلية الاشتغال. لكن المهم والذي ندرك جميعا ضرورته هو التلقي، إذ إن المسرح لا يقف حين يقدم فعله المكتمل عبر عناصر المسرح المجتمعة في ذلك النتاج الفني، والذي نطلق عليه العرض المسرحي إن لم يتواجد المتلقي أي الجمهور والذي يشكل مجسًا لمعرفة قيمة المنجز المقدم أهميته وريادته وابتكاره وتأثيره مع تنوع ذلك الجمهور واختلافه في التوجه والتبني المعرفي والإنساني.
*كاتبة ومخرجة مسرحيَّة