جليل صبيح يغادر الجسر وينشد الشعر

ثقافة شعبية 2023/10/05
...

 سعد صاحب 

الجسور روح المدينة الحديثة، والجسر مرتبط عند العراقيين بالثورة والانتفاضة والشهداء، والتسكع والحب والمواعيد والعبور إلى الجهة الأخرى، وهو خير وسادة لنوم الشعراء المتمردين على ارصفته المتآكلة، وهو بوابة الاحتشاد الجماهيري عند المواجهة مع شتى السلطات الظالمة، وتحت الجسر ينام الصعاليك، أو يموتون من العوز والجوع والبرد، دون أن يدري بهم أحد، والمكان العالي يفضح خبايا المدينة النائمة، ويكشف أسرارها المخبأة في الغرف السرية القاتمة الالوان.
(جسر الجمهورية صديقي/ بس خاصمته اربع سنوات/ مرات اجي يمه وما شوفه/ ومرات بنص بيتي يبات). 


أشياء جديدة 

الجسر يغوي بالصعود إلى أعلى في فضاء فسيح، إلى العلو والشموخ والكبرياء والارتفاع، وهو طيران بلا أجنحة إلى أبراج السماء الشاهقة، وهو نافذة مفتوحة تطل على أشياء جديدة، وهكذا يكون للجسر الحديدي أكثر من معنى، فتارة يأتي بهيئة جماد بارد لا يعي المعاناة، وتارة يتحول إلى انسان يصغي إلى شكوى الشاعر المكلوم، وتارة يصبح ناطقا رسميا عن مأساة المساكين، ومعبرا عن هوية الوطن الواحدة.(صدفه من السعدون اتمشه وشفته كبالي/ جسر الجمهوريه شلونك/ اهلا كلي واجه وياي/ ووصه صديقه السنك اليمه/ كله يعبر السيارات/ ضم اعتابه بروحه وكلي/ معزوم انته ولازم نكعد بالغابات).


ساحة التحرير 

من حق الشاعر أن يحاور جسر الجمهوريَّة العظيم، فهو مميز بموقعه الحيوي، ووجوده بمثابة الروح التي تدب باجسادنا الواهنة، وخرابه يعني خراب الوطن، فهو الذي يقسم دجلة إلى نصفين، وكل قسم لا يكتمل الا بوجود الآخر، الذي يشبهه بالحب والصدق والاخلاص والموالاة إلى الارض، وهو همزة الوصل بين ساحة التحرير الثائرة ومنطقة الكرخ العبقة برائحة الاسلاف، وجار وفي إلى شارع (ابو نؤاس) ونواديه الاجتماعية الساهرة حتى اخر الليل الحميم.(جانت جمعه وكل الناس/ كل واحد حيانه بكاس/ وصعدت نشوة كاسه براسه/ وسولف عن دجله واحساسه/ كل صبحيه يغازل دجله/ ويحبها وناوي يدوي اهله/ ومحتار بقلقه أووهواسه). 

من الممتع جدا، أن يكون بطل القصيدة جسرا يتلوى من الاوجاع، ومن ثقل خطى اقدام السابلة، وصافرات الانذار المرعبة، وهتافات الاحتجاج المدوية وكثرة الممنوع والاغلاق، ورغم العراقيل كان صبورا على الاحداث الجارية وقتذاك، لن يشتكي من الاهمال والتصدع ومرور السيارات الثقيلة، ولن يبكي من الاعباء والاحمال والاوزان.(كتله احجيلي همومك كلهن/ فرغ من صدرك وانكتهن/ اني صديقك لازم تكعد بسك كال/ واسمع مني بيوم اغبر تيهت اسمه/ وصوته ولونه ووجهه ورسمه/ جانت فوكي شجم سياره/ ولن صوت يصيح يا ساتر/ وصافرة انذار تدك غاره).


قصيدة عشق

هي قصيدة عشق مطلق للعراق، والولاء لشعبه المظلوم على مر السنين، وهي واحدة من حكايا الوطن الموجعة، والجسر المحبوب تعرض إلى القصف الحاقد في العام 1991، وتدمير الجسور حالة مقصودة في الحروب، لانها تقلل من معنويات الناس، وتفصل المناطق وتجعلها متباعدة، ولكن بارادة الخيرين استطاع جسرنا من جديد، أن يجمع الاجزاء المعدنية المتناثرة في الماء ويقوم.(كلشي اظلم تدري بساعتها/ وطفيت بخد دجله جكاره/ اقترب الصوت اقرب صار اقرب/ وملجأ خبر ملجأ غاره/ واكف اني ومحد كلي/ جسر الجمهوريه شبيك/ تركض كل الناس وانته بنص دجله مدد 

رجليك). 


مشاهد مؤثرة 

الجسور تضيف سحرا إلى المكان بمظهرها الجمالي الجذاب، وهي محاطة بالحدائق اليانعة، القريبة منها على طول الطريق، والجسور دخلت بقوة إلى ساحة الفنون، فالرسامون خلدوها بلوحات تشكيليّة مهمة، والشعراء كتبوا عنها القصائد، والسينما العالمية قدمت العديد من الأفلام عن الحرب، والشاعر جليل صبيح صور لنا الكثير من المشاهد المؤثرة، عن الدمار والقتل والتشويه والبشاعة وبتر الاطراف، وكأننا نعيش في عالم سريالي بلا رحمة، لا يجيد سوى لغة الموت ورمي القنابل فوق المدائن الآمنة.(ودنكاتي تصيح اخفض راسك/ اخفض راسي/ ليش والمن اخفض راسي/ وانته احجيلي شيصير بلحضتها احساسك/ لو محبوبة كلبك دجله/ مبتسمتلك بآخر لحظات من انفاسك/ لو رجليك الواكف بيهن مبتورات ووكعن يمك/ ولا ربعك يمك لا ناسك/ لو ايدك مرعوبه وتصرخ تتلمس تبحث عن راسك).