المدرسة الرواقيَّة.. فلسفة حياة لا فلسفة عجائز
مؤيد أعاجيبي
في مقالةٍ نُشرت مؤخراً في ملحق جريدة الصباح الثقافي في الأيام السابقة، استعرض الأستاذ علي حبيب موضوعاً مثيراً بعنوان (الرواقيَّة: فلسفة حياة أم فلسفة عجائز؟). وفي هذه المقالة، قدم رؤيته حول المدرسة الرواقيَّة، ووصفها بأنها تقتربُ من الفلسفة العجائز أكثر منها لفلسفة الحياة وبالرغم من الحريَّة التامَّة التي يمارسها طالب الفلسفة في النقد، إلا أنَّ هذا التصوير المحدود للرواقيَّة يمكن أنْ يُعدَّ تقديراً غير عادلٍ لهذه المدرسة الفلسفيَّة وفلاسفتها. وحبيب قدم وجهة نظره الشخصيَّة حول المدرسة الرواقيَّة في المقالة التي نشرها. ومن الطبيعي أنْ تكون لديه وجهة نظر تختلف عن وجهات نظرٍ أخرى حول هذه المدرسة.
في المقابل أعتقد بأنَّ الصورة التي قدمها حبيب للرواقيَّة لا تعكس الواقع والحقيقة بشكلٍ كامل، وعلاوة على ذلك فإنَّه لم يجب على السؤال الذي طرحه في مقالتهٍ بشكلٍ واضح، إلا أنَّه قدم تفسيراً بين السطور تبنى فيه رأياً مختلفاً نراه غير صائب، بل حتى مفهوم فلسفة العجائز يدلُّ في العادة على النضج والحكمة الشخصيَّة التي يكتسبها الأفراد مع تقدمهم في العمر. تأتي هذه الفلسفة على ضوء فهمٍ أعمق للحياة والتجارب الشخصيَّة التي يمرون بها. إلا أنَّ صاحب المقالة قد استعمل المفهوم بمعناه السلبي.
وفي مقالتنا هذه سنستكشف كيف أنَّ هذه المدرسة الفلسفيَّة تعبر عن نظريَّة في فلسفة حياة، بل هي تصوّرٌ فلسفيٌ يمكن أنْ يكون ذا أهميَّة كبيرة في حياة الأفراد في من القِدم حتى يومنا هذا.
وهنا لا بُدَّ أنْ نُشير إلى مسألة مهمة، أنَّ أغلب الدارسين للفلسفة لا يعطونها طابع القداسة ولا لفلاسفتها وأنا منهم، وهذا يجعل الفلسفة تحتمل التقييم والنقد بشكلٍ كامل. فكل حركة فلسفيَّة أو مذهب فلسفي أو منهج يمكن أنْ يكون معرضاً للنقد. لا يمكن أنْ يُعدّ أي فيلسوف أو فكرة في الفلسفة خارج نطاق النقد. في الفلسفة، ليس لدينا نظريات مثبتة أو قوانين صارمة أو أدلة ثابتة. وهذا ما يميزها عن العلوم الصرفة التي تعتمد على أدلة محددة وتجارب متكررة. بدلاً من ذلك، في الفلسفة نتعامل مع أفكار وآراء لم تتم معالجتها بشكلٍ دقيقٍ أو تقاس بوحدات تجارب حياتيَّة محددة. نحن نستخدم أفكار الفلاسفة لنفكر في موضوعات مختلفة ونسعى لإيجاد إصلاحات وتحسينات وفق رؤى الفلاسفة. وهنا لا بُدَّ أنْ نشيرَ إلى أنَّ النقد في الفلسفة لا يعني الهدم والانتقاص أو السخريَّة من الأفكار. بل هو وسيلة للتقويم والبحث عن الحقائق. يساعد النقد في تطوير الأفكار والتفكير الفلسفي والوصول إلى معرفة أعمق.
كما يجب علينا أنْ ندرك، أنَّ النقد يشكل جوهر الفلسفة وأساس تفكيرها، إذ يتمُّ التفحص والتأصيل للأفكار من خلال التحليل. بعد ذلك، يتمُّ دمج هذه الأفكار في تركيب يجمع بين تقبل الفكرة السابقة وإضافة عناصر جديدة، وذلك استناداً إلى فهمنا لطبيعة الإنسان واهتمامه ودهشته تجاه الموضوعات المتعلقة بالواقع. هذا النهج يسلط الضوء على جانب الفلسفة العملي الذي يتعلق بالسعادة والسلوك، وخصوصاً عندما يتعرض العقل البشري للتحديات والأزمات الصعبة التي تجعله في مواجهة فقدان المعنى والتشتت. فلكل مدرسة فلسفيَّة أسلوبها ونظرتها الخاصة للحياة، تكون مختلفة عن المدارس الأخرى.
ولم يلاحظ الأستاذ علي حبيب أو أنَّه غاب في قراءته للرواقيَّة، التفاعل الفعّال بين المدرسة الرواقيَّة والسياق والزمان الذي ازدهرت فيه هذه المدرسة، وهذه نظرة نسيء فهمها إنْ عزلناها (أيّ الفلسفة) عن التقليد الواقعي والمعرفي الراسب في متن الثقافة التي تنتسب إليها. أو كما يقول جون دوي بأنَّ "الفلسفة هي التكيف مع الواقع" فلا الفلاسفة ولا المفاهيم تخرج من الأرض كالفطر. فمتغيرات الواقع هي التي تسهم في تحديد وجهة نظرها، الأمر الذي يجعل لها تفكيراً خاصاً، وتستعمل فيها المفاهيم بطريقةٍ خاصة، وتعيد نظهرها في التراث الفكري الذي تتبناه بأسلوبها وبأدوات نظريَّة مختلفة وقد تستوردها جاهزة وقد تنتجها بنفسها.
والمدرسة الرواقيَّة هي واحدة من الحركات الفلسفيَّة التي ظهرت في الحقبة الهللينستيَّة، متأثرة بواقعها السياسي والاجتماعي والمشكلات اليوميَّة التي كان الإنسان يعانيها، وما خلفته التقلبات السياسيَّة من انحلالٍ أخلاقي وسيطرة العبيد، وانتشار القلق والتوتر والخرافات وتمسك الناس بالأوهام. بعد الفتوحات التي حققها الإسكندر المقدوني، فقد فقدت الروح الإغريقيَّة حريتها الفرديَّة وأصبح الانسحاب والسلبيَّة سمتين رئيستين للحياة الفكريَّة في ذلك الوقت. أصبحت الغاية الرئيسة للفلسفة هي البحث عن سعادة الإنسان وتحريره من الضياع والتشتت وفقدان المعنى، فأخذت الرواقيَّة على عاتقها إرساء الفضيلة ومحاولة اصطناعها في الحياة من أجل الوصول الى السعادة، في هذا الوقت لم تعد الفلسفة تبحث عن الحقيقة في ذاتها كما عند أفلاطون وأرسطو، بل أصبحت معياراً خارجياً يتجه إلى ربط الفلسفة بالمقوِّم الأخلاقي، فبات الإنسان شغلاً شاغلاً لها، وهو ما دفع إلى ظهور الفلسفة العمليَّة التي سعت لإشباع الهاجس الإنساني من ناحية السلوك كوسيلة للوصول إلى غاية محددة هي السعادة، فالبحث في الإنسان وأحداث العصر والعلاقة بينهما كانت نقطة البداية في تحديد نظرة الإنسان إلى نفسـه والعودة إلى ذاته حتى يستخلص معنى وجوده ومعاني الوجود كله.
والرواقيَّة نجحت في تذليل الحواجز بين الفلسفة والحياة اليوميَّة، إذ لم تقتصر الفلسفة على الانغماس في المجالات المحددة والابتعاد عن العالم الواقعي. بدلاً من ذلك، أعطت الرواقيَّة أهميَّة كبيرة للجانب العملي والأخلاقي للحياة. ركزت بشكلٍ أكبر على فرادة الإنسان وعواطفه وانطباعاته الأوليَّة، وآرائه حول الأمور والواقع، وذلك في عالمٍ متلاطمٍ يشهد الفوضى والانهيارات، وبناءً على ذلك، عملت الرواقيَّة على تقديم أساسٍ أخلاقيٍ للسلوك الإنساني ومبدأ ثابتٍ للحياة الفاضلة للإنسان في هذا العصر المليء بالتحديات. أصبحت الفلسفة الرواقيَّة وسيلة للبحث عن السعادة والسكينة، حيث تمكنت في تحقيق حكمة في فن العيش السعيد. وأسهمت بشكلٍ أساسي في تطوير مجالات لما يعرف اليوم داخل حقل السيكولوجيا بعلم النفس الإيجابي، وعلم النفس المعرفي، والعلاج المعرفي السلوكي بما هو أداة عمليَّة للعلمين السابقين في الوقاية من الاضطرابات النفسيَّة وعلاجها.
أسهم كل هذا في انتشار هذه المدرسة الفلسفيَّة واستمرارها حتى عصرنا الحالي ، ويعزى ذلك لارتباطها الوثيق بالحياة. إذ تدعونا إلى التحلي بالمثابرة واعتماد الحكمة والبحث عن السعادة. توضح مبادئها القيمة في كيفيَّة تحقيق الإنسان حياة مميزة، وتشدد على أنَّ الفضيلة (بمعنى ضبط النفس والشجاعة والعدالة والحكمة) فهي جوهر السعادة. فهمنا للأمور وتقديرنا لها - وفقاً للرواقيَّة- يؤثر بشكل كبير في سعادتنا أو تعاستنا. وتعتمد سعادتنا على قدرتنا على تمييز ما يمكننا التحكم فيه وما لا يمكننا التحكم فيه. إذا نجحنا في التركيز على الجوانب التي تقع تحت سيطرتنا في حياتنا، وتقبلنا وجود الجوانب التي ليس لدينا السيطرة عليها، سنعيش حياة أكثر سعادة. وبالتالي، سنكون لنا مزيَّة واضحة على الأشخاص الذين لا يدركون أنهم يتصارعون في معركة لن يمكنهم الفوز بها. لهذا السبب، وضعت المدرسة الرواقيَّة مبادئها لمساعدة الأفراد في فهمٍ أفضل للواقع وتحقيق السعادة.
بحسب وجهة نظر الرواقيين، يُعَدُّ مصدر شقائنا الأكبر هو رغباتنا التي لا تنتهي، وهذا يكون خاصةً عندما تكون قدراتنا وإمكانياتنا غير قادرة على تحقيق ومواكبة هذه الرغبات. وفي رأي سينيكا، فإنَّ مصدر غضبنا الكبير يعودُ إلى آمالنا العارمة التي تجعلنا ننسى أهميَّة العيش في اللحظة الحاليَّة والاستمتاع بما نمتلكه فيها. لهذا السبب، يُفضل الرواقيون استبدال الرغبة بالإرادة المستنيرة بواسطة العقل (اللوغوس). هذه الإرادة تُحوِّل رغباتنا العمياء إلى أفعالٍ إراديَّة ثم تأملها بعقلانيَّة، وتحوِّل آمالنا إلى آمالٍ متواضعة تناسب إمكانياتنا الفعليَّة. لذل يُعَدُّ مفهوم "عيش الحاضر" أحد المبادئ الأساسيَّة لهذه المدرسة الفلسفيَّة. ومبدأ هذا المفهوم يقتضي عدم الفرار إلى الماضي الذي انتهى، أو الهروب نحو مستقبلٍ غامضٍ وغير مضمون. وهذا ما يؤكده قول سينيكا: "من فرط العيش في الماضي، أو في المستقبل تعوزنا الحياة. وقد تنقضي الحياة، ونحن ننتظر أنْ نعيش. فما أشد حماقة الإنسان الذي يتأهب دائماً للحياة".
لذلك، تُعطي المدرسة الرواقيَّة أهميَّة كبيرة لـ "الفيلسوف كطبيب"، وهذا يعني بشكلٍ واضحٍ أنَّ دور الفيلسوف يتمثل في علاج الأرواح المتعبة واستعادة ثقتها في الحياة قبل التفكير في فهم الوجود. يتمُّ ذلك من خلال تطوير المبادئ الأخلاقيَّة، وتقديم مفهومٍ جديدٍ في الفلسفة يُعرف بالفلسفة العلاجيَّة، حيث تقدم العلاج الروحي لأولئك الذين يحتاجونه، من أجل تنظيم حياة الأفراد وتوجيههم نحو سلوكٍ صحيح، وتعلمهم ما يجب القيام به وما يجب تجنبه. كما تساعد في الحفاظ على سلامة العقل من الانفعالات الضارة والأذى، وتشجع على الرضا بكل ما يحدث وقبول مصير الإنسان بسعادة. إنها تعدُّ وكأنها الأم التي تحتضن أولادها وتخفف عنهم من آلامهم عبر تعليمهم قيماً فكريَّة عقلانيَّة تربطهم بالعالم بأسره. وهنا تكمن عظمة الفلسفة الرواقيَّة مما يجعلها فلسفة حياة لا فلسفة عجائز.