رصاصُ {الفرح} يُخَضّبُ بالدم

ريبورتاج 2023/10/09
...

 جمال العتابي 


تلك الليلة من حزيران عام 1997، غطّت شهب الرصاص أجواء بغداد، واحترقت السماء بأزيزه، بعد أن أعلن مذيع التلفزيون وصول أول باخرة تحمل السكر إلى ميناء أم قصر، كانت (فرحة) العراقيين لا توصف، حين مرر النظام واحدة من أكاذيبه في كسر أول حاجز في الحصار الامريكي المفروض على الشعب العراقي، بناءً على قرارات مجلس الأمن إثر غزو الكويت عام 1990.

كان المشهد الناري يتصاعد لحظة إثر أخرى، مع تصاعد وتيرة نبرة المذيع الذي بُحّ صوته، وهو يعلن (انتصار) العراق في صولة جديدة مع العدو، والناس!! راحوا يهزّون البطون والأرداف منتشين بالنصر، هي ذي بغداد نهر طافح بالألم، أغرقوها بضلالات وعود كاذبة. كان الرصاص يتعالى ومعه يتساقط عشرات الضحايا، ومئات الجرحى. 


رغبات

وسط هذا المشهد، ليس أمام المرء إلا الشعور بالذهول والحزن، إذ ينتابه وهو يراقب ذاك الهوس الجنوني، رغبات ومخاوف مكبوتة، توتر انفعالي مضاد لضبط النفس، وعدم القدرة على احترام القيم الأخلاقيّة والقانونيّة، حشودٌ من البشر تتجدد فيها تلك الرغبات في كلِّ مناسبة من هذا النوع، تلك واحدة من مئات المناسبات التي يعبّر عنها باطلاق الرصاص: فوز المنتخب الكروي، زيادة الرواتب والترقيات الوظيفيَّة، ختان الأطفال والأعراس، التخرّج الدراسي، توديع الموتى، اضافة لحوم الدجاج والبيض إلى الحصة التموينيَّة. 


بداية

ثمة تساؤلات حائرة عديدة تبحث عن مغزى هذا السلوك الهمجي ودوافعه، وبدايات تشكله في مخيلة الفرد العراقي، اذا استثنينا الآن امتلاك القوى السياسيّة والعشائر لأنواع السلاح المنفلت الذي لا يخضع لسلطة الدولة ولا القانون، من المؤكد أن هذا الواقع يشير في إحدى إجاباته أو تفسيراته إلى دوامة الاحباط والاخفاق، واللا معنى في حلقة الحياة المفرغة. 

والمتتبع لهذه الظاهرة لا يجد صعوبة في الكشف عن بداياتها الأولى التي اقترنت بسلوك رأس النظام، وهو يمارس الفعل بنفسه وسط حشود هائجة تصرخ: بالروح بالدم نفديك....... الشعور بالزهو والخُيلاء، واستعراض القوّة أمام تلك الجموع، انه الفعل الأوضح، والأكثر حضوراً في وعي الظاهرة، حين يكون (المسدس) ملازماً لخصر القائد، لا يفارق حزامه، يتخيل شخصه كمنقذ ورمز وأسطورة. 

إنَّ الدراسات النفسية الحديثة العراقية غاب عنها تناول هذه الظاهرة في البحث والتحليل، كما أن دراسة مهمة للدكتور علي الوردي عن طبيعة المجتمع العراقي، وردت فيها أخبار عديدة عن القتال بين القبائل نفسها، أو بينها وبين المدن والحكومة، أو بين مدينة وأخرى، وبين محلة وأخرى ضمن المدينة الواحدة، كذلك بين قبائل الريف والبدو. ولم نجد أثراً لظاهرة اطلاق الرصاص في سلوك المجتمع العراقي حتى تاريخ صدور ذلك المؤلف المهم في أواسط الستينات من القرن الماضي، سوى بعض الاشارات البسيطة لميول أبناء الريف نحو شراء السلاح، وهم في أشد حالات الفقر والجوع، دفاعاً عن النفس في أجواء المخاطر والتهديد. 


عسكرة المجتمع

ويلوح لنا أن النجاح الذي حققته سلطة الاستبداد الدكتاتورية، هو التمكن من عسكرة المجتمع، وتوريطه في القيام بأفعال قل نظيرها في العقود التي فرضت فيها سيطرتها على الحكم، وهو ما قوّى إمكانية السلطة في صناعة المجتمع، في ذات الوقت كانت المعسكرات إحدى الوسائل القسريّة لتحقيق أغراض شريرة، تأتي في مقدمتها سحق الذات الإنسانيّة وتدميرها، جرى ذلك وسط أجواء إعلام هستيريّة، مهمتها تمجيد الموت، والدعوة له كـ (مهنة) شريفة للدفاع عن الوطن!. 

قد نجد لهذا السلوك تبريراً في النتائج الكارثيّة للحروب ومخلفاتها النفسية والاجتماعية، مع تكريس (ثقافة) جديدة في إدخال مادة (اطلاق الرصاص) في البرامج الدراسيّة، مع فعالية رفع العلم صباح كل خميس من الأسبوع، وإجبار أساتذة الجامعة على التدريب في استخدام السلاح، لهدر كراماتهم، وسلب إراداتهم، وإذلالهم. 


غياب أمني

في ظل هذه الأوضاع الشاذة، يلجأ الفرد الأعزل الضعيف لشراء السلاح، وان كان يثقل كاهله المادي لحماية نفسه، حين لا تؤمن له الدولة أو المجتمع الحماية والأمن، فيهرع بغياب القانون إلى البحث عن أية وسيلة للدفاع عن نفسه في وقت الأزمات. 

إنَّ فوضى انتشار السلاح وحمله في الأماكن العامة، يعد أحد المؤشرات الخطيرة التي أسست لثقافة العنف، منذ سنوات حرب الخليج الأولى وحتى الآن، ولم تقتصر الظاهرة على أبناء الريف فحسب، انما امتد أثرها لحواضر المدن، لتكون أكثر تعقيداً من ناحية سايكولوجية واجتماعية، إذ إن هذا النمط من السلوك لا يقترن بالضرورة بسلوك العنف، بل يتعداه إلى ممارسة اللهو أو الافتعال أحياناً، وتحقيق اللذة في التعدي، ويتحول إلى سلوك (سايكوباثي) خطير يهدد المجتمع. 

ما السبيل للخلاص أو المعالجة إذاً؟؟، للإجابة عن هذا السؤال، نعتقد أن استقرار الوضع السياسي، وزوال أسباب الاحتقان، والتوتر السياسي، وتغيير ثقافة المجتمع، وتطبيق القانون بفرض إرادة الدولة، ومحاسبة المخالف بإجراءات مشددة قادرة على التخفيف من حدة الظاهرة، من دون أن يعني زوالها، إلّا أنّها ستكون خطوة أولى في الاتجاه الصحيح.