كاظـم بهـيـّـة
منذ السبعينيات لمع اسم محمود العطية فناناً على نطاق محلي في مدينة بابل، وعرف من بين زملائه الفنانين عند تخرجهم على مدى واسع.. بدأت علاقته الحميمة مع الرسم خلال دراسته الابتدائية، ثم حصوله، آنذاك، على جائزة (شانكر الدولية) لرسوم الأطفال، التي كانت بمثابة حافز معنوي شجعه على الاستمرار بمزاولة هوايته بشغف وصولاً لدخوله معهد الفنون الجميلة.
لقد كان الفنان الراحل يبدأ من الإنسان وينتهي اليه، وهو ما لوحظ جليا في معظم الأعمال، التي رسمتها أنامله عبر أعمال لشرائح إنسانية متنوعة تحمل في دواخلها الكثير من الوقائع الحياتية، وفي حديث سابق له كان يقول: (لقد حاولت أن أصل بهذه الشرائح إلى المساحة العريضة التي يتواجد فيها كل الناس).. هكذا كان العطية فنانا وإنسانا لم يفارق الواقع، فهو يبحر دائما في مواضيعه لواقع جديد، ومستقبل زاهر.
العطية كان واحدا من الذين آمنوا بمستقبل مشرق، حيث يميل في أعماله إلى تصوير معاناة الإنسان وتجسيدها في عالم ممتلئ بالتناقضات بأسلوب فني تعبيري، واعتماده على الإنسان كمحور اساسي في صياغة الفكرة لتكون أرضية للوحة.
لقد كان يسعى جاهدا إلى الابتعاد عن التفاصيل في اللوحة مركزا على جوهر الأشياء والإنسان، وهذا ما ينأى بأعماله عن البهرجة في اللون، وكذلك التفاصيل التي قد تثقل العمل الفني، عندما يقوم بتحقيق أي عمل فني له فهو ناتج من مخزون شامل لرؤيته ونجاح أي عمل في نظره ينتج بالضبط من المعايشة الدقيقة والرصد المتميز للواقع وتحويله في الأخير إلى رؤية إبداعية واضحة تمتلك سمات إبداعها المتميزة، وبالنسبة له فعندما ينجز عملًا فنيًّا ما.
يظل العمل في نظره جسرًا يحاول أن يصل من خلاله إلى بعض ما يصبو إليه من طموحات بعيدة المدى.. هكذا كان العطية وكما عرفته من خلال لقاءاتي معه قبل رحيله في مدينته الحلة، فنانًا تشكيليًّا، وإن أعماله التي شاهدها المتلقي وزملاؤه من الفنانين التقدميين، تعد صفحاتٍ ذهبيَّةً في سجل تاريخ الفن العراقي المعاصر، بقيت إلى يومنا هذا حاضرة في الأذهان، فأغلب رسوماته ثيماتٌ شعبيَّة تحمل الطابع الحلي كونه يعشق مدينته.
مرة.. تحدث الفنان سمير يوسف في لقائي معه في مدينة الحلة عن أعمال الراحل العطية، قائلا: تعتمد رسومات الفنان الراحل محمود العطية، على الاستجابة المباشرة للمواقع والمناطق التي عاش فيها.. كان همَّه اثناء الرسم هو انشغاله العاطفي بأشغال اللوحة بألوانه المائية المحببة والبهيجة، التي لا تعكر صفوها خواطر الألم المحزن، الذي تعايش معه كما اشتغلت معه معايير المكان الفولوكلورية.
رسم العطية العمال والفلاحين والكادحين. فالتماثليات الجمالية والبيئية شغله الشاغل، حيث تعود طريقته في الرسم إلى التأثيث المكاني لمدينة عشقها وترجم ذلك في رسوماته المائية والتخطيطية، إذ جعل من المكان "حب وذكريات طفولية" تحمل القيم العاطفية للذات الشعبية وكأنه يقول لنا: "أحب الألوان المائية بشفافيتها وبريقها.. وهذا هو المكان الذي أريد أن ارسمه، مدينتي ووطني".
أنني هنا أريد أن أحيي ذكراه كأستاذ لي وصديقٍ عزيزٍ فقدناه أيضا، فبعد رحيله عام 1999 ترك للمكتبة الفنية التشكيليَّة ثروةً غنيَّةً كبيرة - وهي حصيلة عمره الحافل بنتاجات قيمة رسمتها أنامله - وهذا هو الموضوع، الذي حفزني لدعوة دائرة الفنون التشكيلية في وزارة الثقافة الاهتمام في تجمع تراث العطية، الذي حجبت وغيبت أعماله لسنين طويلة، غاية في عرضها بمعرض خاص به، وحبذا لو أخذت نقابة الفنانين في مدينة الحلة بيدها بتجمع أعماله من أهله وأصدقائه وإقامة متحف دائم له، قبل أن تفقد وفاء لما قدمه العطية من عصارة جهده إبداعا غاية في إغناء مسيرة الفن التشكيلي العراقي، بأعمالٍ تمكنت من أن تجد صداها المؤثر لدى المتلقي، بوصفها معبرةً عن طموحات الناس وأحاسيسهم وواقعهم الحياتي المعاش.
وتجدر الاشارة إلى أن العطية من مواليد الحلة 1946، خريج معهد الفنون الجميلة قسم الفنون التشكيلية، عين معلما في مدارس الهاشمية والمدحتية، وعمل في مركز الأشغال اليدوية التابع للمديرية العامة لتربية بابل وبوظيفة مشرف فني/ قسم الفنون التشكيلية. واقام لأعماله معرضا شخصيا في مدينة الحلة 1970، كما واسهم في جميع معارض نقابة الفنانين فرع بابل للسنوات الماضية قبل رحيله.