تمثّلات الكولونياليَّة في {النظام العالميّ الجديد}
حيدر عبدالله الشطري
تتشكل أنظمة التحكم والسيطرة على الأفراد والشعوب أو المجتمعات بالتركيز على إدارة هؤلاء وفق منظومة سلطوية تسعى دائما إلى تحقيق ذلك بوسائل براغماتية تكون الغاية منها استغلال الثروات والتحكم بالمقدرات .ويتمثل ذلك بابتداع أنظمة شموليّة شعاراتيَّة هزيلة تحاول اغراء الآخرين بمبادئها وأهدافها المعلنة التي تشير إلى التحرر من العبودية عبر ممارسات وسياسات مخادعة ومخاتلة الغرض منها فرض الهيمنة وبلورة ثقافات وقناعات وتصورات جديدة .
ولقد انتبه النقد لهذا الخطاب الثقافي الكولونيالي وقام بدراسة أسباب القوة لديه وتمثلاته المتعددة والمتشكلة بعدة أشكال وانماط وأنظمة، وكان لابد من ادانته ومناهضته وكشف توجهاته في محاولات التأثير الثقافي والتي تدعو إلى استلاب كل معاني الحرية.
فكان لابد من تفكيك هذا الخطاب والبحث في غاياته بتسخير مفاهيم فكرية تشتغل في رصده باعتباره ظاهرة ثقافية لها تأثيرها في ثقافات العالم وتهديم بنياته الاجتماعية الاصلية .
وكان للمسرح دوره المتميز في فضح الخطاب الكولونيالي وكشف أهدافه التوسعية ومحاولة انتاج خطاب جديد يدعو للتحرر من القهر والاستلاب.
ولم يكن عرض مسرحية (النظام العالمي الجديد) الذي قدمته فرقة الفنون المسرحية لمعهد الفنون الجميلة/ بغداد من تأليف الكاتب هارلود بنتر وإخراج حمزة جعفر، الا واحدا من هذه العروض التي تحاول كشف تمثلات الكولونيالية وتأثيرهاوادانتها بكل تنوعاتها.
كتب هذا النص عام 1991 في المرحلة النقديّة تجاه الأنظمة السياسيّة الغربيّة، ونزعتها الاستعماريّة الجديدة التي جعلت من الكاتب هارلود بنتر ناشطاً سياسياً مثلما اشتهرت مواقفه السياسية النضالية القوية بالجرأة والالتزام حيال القضايا الانسانية المختلفة حيث يقول:
(لا أنوي أن أبتعد ببساطةٍ عن السياسة وأن أكتفي بكتابة مسرحيّاتي، مؤدّيًا دورَ الولد الشاطر، بل اعتزم البقاء مستقلاً ومفكِّرًا في الشأن السياسيّ على طريقتي الخاصّة).
وقد انعكس نشاطه السياسي على أعماله في فترة التسعينيات، وهو ما ظهر جلياً في أعماله الأدبيّة ومنها نص مسرحية (النظام العالمي الجديد) وهو من النصوص القصيرة الموشاة بالرمزية والإشارات الواضحة التي تدين الاضطهاد والعنصريّة والقمع والتسلّط بكافة أنواعه وأشكاله وأماكنه. لذلك كان هذا النص متميزا بطرحه الفكري العميق وتجسيد معاناة الفرد في التغلب على كل ما يهدد حريته.
كتب النص بلغة مبتورة وغير مكتملة المعنى وحوارات قصيرة لكنها كانت نموذجاً صارخاً رغم بساطتها تعتمد وترتكز على تشكيل الفعل المسرحي حركيا من خلال التركيز على لغة الجسد واشتغالاته والاداء التمثيلي ودلالاته لذلك نجد عند قراءتنا للنص ان هناك بياضات نصية ولحظات صمت طويلة تحاول أن تشغل مجالا حيويا لا يكتمل إلا بالحركة المعبرة والدالة وهذه واحدة من أبرز الاساليب التي اعتمد عليها بنتر في كتابة هذا النص.
فكانت اللغة في هذا النص هي الجسر الذي نمر من فوقه للوصول إلى المعنى المضمر في فضح القمع بكل اشكاله، فمن خلال الحوارات المتبادلة بين شخصيتي ديسي وليونيل وعملية انشائها في الاشارة إلى رجل أول لا يتكلم ويفترض النص إنه كان معصوب العينين وإن لا فكرة لديه عما سيفعلانه به ثم يتكهّنان بأنّه قد يملك فكرة غامضة عن ذلك، وربما فكرةً صغيرةً عمّا يمكن أن يفعلا بزوجته أيضًا وبالتالي تتكون هذه الفكرة الغامضة لدينا نحن ايضا حيث يؤكد الكاتب ذلك من خلال تكرار هذه الجملة في النص لتجريدها من معناها الاصطلاحي بحيث أراد أن تكتسب كيانا مستقلا عن المعني الذي يحددها لها، ومن ثم التوصيل على أنّها فكرة تدميريَّة أكبر من كل التصورات التي من الممكن أن نتخيلها وكان ايضا اسلوب التكرار واحدا من الاساليب التي كتب بها نص (النظام العالمي الجديد).
ولم يكن القتل هو الفعل الذي يشير إليه الكاتب بل أن هناك ما هو أكثر فظاعة منه افعالا من الممكن أن تحل بالرجل الاول الضحية والذي هو بالتالي ما يقع عليه فعل الاستلاب.
ثم يسير النص باتجاه تعميق الصراع بين الشخصيات الذي يبدو إنه صراع بسيط تشوبه السكينة لكن سرعان ما يتبدد هذا الايحاء للوصول إلى مرحلة التوتر والقلق التي يركز عليهما الكاتب في بناء نصه الدرامي غير التقليدي الرصين والمتماسك والذي يصور من خلاله بنتر ان الواقع لا يسير بشكل نظامي ومرتب وهو مسيرة تسير بكل الاتجاهات محاولة التقاط ما يمكن التقاطه.
عمل المخرج حمزة جعفر على كسر البنية الدرامية للنص حين اقترح أولا تغيير بنية المكان غير المعلوم وجعل الاحداث تدور في مكان آخرلم يعمل على تأثيثه بما يعلن عنه وبقي مكانا عائما غير محدد المعالم والجغرافية ليتبين فيما بعد إنه جزيرة نائية في وسط البحر وهذا التأسيس جاء ليخدم فرضيته في طرح عرض انظمة عالمية وغير عالمية متعددة من الممكن أن تكون أكثر سوءً من النظام العالمي الجديد الذي يشير إليه النص وذلك عبر وسائل ومعالجات اخراجية ركن إليها المخرج في تقديم عرضه.
يبدأ العرض من الإعلان عن اندثار وانتهاء نظام عالمي قديم ليحل محله نظام عالمي جديد واشهر عن ذلك بالكتابة على القطعة الديكورية التي يخرج منها الرجل والتي حرص المخرج على تعدد استخداماتها ومحاولة توليد وظائف جديدة لها حيث اشتغلت كونها (قارب، منصة، سرير، تابوت) وقد عمل على تعزيز تشكيل فضاءه السينوغرافي بعدة وسائل منها: ملأ فضاء العرض بالجرائد للإيحاء بالتأثير الإعلامي للنظام التعسفي الذي يروم السيطرة على العالم. وكذلك استخدم الشبكة أحادية التأويل في كونها اداة لاصطياد الفرائس.
ولم تكن المسبحة التي تنوع استخدامها وتحولت إلى سلسلة لتقييد الاشخاص الا تجسيدا لواحد من هذه التمثلات في إشارة ضمنية لنظام يحاول السيطرة على مقدرات الإنسان.
واستخدم المخرج كذلك الفريمات ناقصة الاضلاع مفككا شكلها الهندسي المربع والتي لم يكتمل شكلها وصورتها
إلا من خلال اذرع الشخصيات.
ووسط هذه الفوضى التي يصورها العرض والتي يشير فيها إلى تكالب الانظمة المتعددة والتي لم يفاضل بينها ولم يرجح كفة أحدهما على الآخر فهي جميعا تشترك في أفعال متشابهة وأغراض محددة كما انه لم يقترح شكلا ومعنىً نموذجيا لنظام بديل ولم يوجه إلى أحد دون الآخر.
وأدى ذلك إلى الوقوع داخل ازمة فوضى تقديمية في حشد العرض بالكثير من التشكيلات الصورية والحركية حتى وكأن المخرج اراد أنّ يقول كل شيء عن كل شيء فكان يقف عند كل فكرة ليحاول تفكيكها وترجمتها وتفسيرها بالفعل والحركة ومحاولة تصويرها بشكل خاص وقد أثقل العرض بمحاولات متعددة لتوليد وظائف اخرى لكل قطعة ديكورية وصعوبة تنفيذ ذلك بما أضاف من جهد كبير تحمله ممثلو العرض.
كما أنَّ العرض لم يهتم لواحدة من أهم ميزات هذا النص وهي الصمت الذي أشرنا اليه سابقا والذي يعتري الكثير من المواقف لقناعة الكاتب بالشك في قدرة الكلمة على التعبير لذلك قام بالاستعاضة عن بعض الكلمات بالإيحاء الحركي الصامت لكن العرض كان ضاجا بالحوارات المتلاحقة والمستمرة والتي لم تتح للمتلقي أن يلفظ انفاسه في ملاحقة الحدث ومتابعته .
لقد كرس مخرج العرض عناصر عرضه المسرحي لتأكيد أن هناك الكثير من هذه الانظمة التي تحاول السيطرة على الشعوب حتى وأن تباينت في ظهورها التاريخي فهناك نظام عالمي قديم وحالي وجديد ولكل منهم خصوصيته وطروحاته حتى وكأنه بقر تشابه على الجميع ولم يعودوا ان يميزوا بينه وأن هناك تمثلات عديدة لهذا النظام واشكال قد تختلف وقد تتفق في بعض مفاصلها، فهناك أنظمة جديدة تظهر واخرى تضمحل وما بين هذا وهذا يكون الإنسان ضحية لكل ذلك، العقائدي منها والمادي والرأسمالي.
إن عرض (النظام العالمي الجديد) عمل عليه مجموعة من الشباب المسرحي الواعد والذين نعول عليهم كثيرا في حمل مسؤولية المسرح وهو عرض شبابي يحاول أن يحلق في فضاء التيارات الحديثة في المسرح والتي تقف ضد الجمود وتحطيم القيود ومهاجمة المحرّمات والانشغال بالهموم الإنسانية والوجودية والتطرق إلى موضوعات تخصهم وترتبط ببيئتهم وقضاياهم السياسية والثقافية والاقتصادية، برؤية مختلفة فكان العرض اعلانا لموقف نقدي من الإيديولوجيا والحرب والسياقات الاجتماعيَّة والسياسيَّة.