تشرين.. حراكٌ شبابيٌ أم مركزيَّة ثقافيَّة؟
محمد جبير
أطلقت الحناجر الشبابية الغضة صوتها عاليًا في تشرين الأول من العام 2019، مطالبة باستعادة وطن مستلَب، حيث استشعر هذا الجيل الذي ولد مع مطلع القرن الجديد، ثمة هواء خانق جثم على صدور العراقيين جرّاء ممارسات حكومية خاطئة متكرّرة راكمت سوء الإدارة، وعانى من مخرجات تلك الأخطاء، فقد استبشر الشباب في التغيير بعد نيسان 2003 أنّهم سيتنفسون هواء نقيًا، ويحلمون بتحقيق حياة كريمة تليق بأبناء بلد الخيرات، ولكن ليس كل ما يتنماه المرء يدركه، وعدم الإدراك لا يعني غياب الوعي الشبابي الفاعل الذي سعى إلى الصراخ بحنجرة طرية، مطالبا باستعادة الوطن.
هذه الحناجر الغضّة سعت بكلّ ما تملك من قوّة مسالمة أن ترفع صوتها عاليًا لإيقاظ الضمير الجمعي، لكي يكون ظهيرًا حاميًا وساندًا لكلّ خطوة من أجل النهوض وترميم جراحات الوطن، ارتسم المشهد بوضوح، هناك حناجر خضراء غضّة لم تتلوّث بغبار ووحل نظام سابق، تطمح أن تعيش حلمها، وتسعى إلى تحقيقه على أرض الواقع، على الرغم من تحدّيات وبطش نظام يرتكز على كثافة حضور السلاح المنفلت.
في هذا المشهد الذي يتجسّد سرديًا على أرض الواقع، يكشف عن عدم توازن جناحَي المشهد «النظام/ الشباب»، فالنظام يمتلك القوّة والحضور والهيمنة على القرار الرسمي، لذلك لجأت تلك الحناجر إلى بثّ روح التحدّي في المجتمع بشكل عام، ليكونوا جدار الصدّ الخلفي الذي يحمي ظهر الشباب من السلاح المنفلت، فتلك القوّة السائبة أرادت كتم صوت الحناجر الطرية.
وسط ساحة التحرير نُصبت الخيام، لتعبر نصب الحرية عبر حديقة الأمّة إلى جدارية فائق حسن المطلّة على ساحة الطيران، حقّقت تلك الخيام حضورًا شكليًا لواجهات نقابية ومنظمات مجتمع مدني، ممّا سمح لتغلغل خيام لجماعات مسلّحة تتخفّى وراء مسمّيات اجتماعية وإنسانية، حملت مسميّات مكان الاحتجاجات مداليل كثيرة، منها ما هي مسمّيات تأريخية لها دلالة معنوية ووجودية، تدفع بمركزيات الثقافة الشبابية إلى مستوى أعلى من الاحتجاج والتظاهر إلى مرحلة الوجود الفاعل في الساحة السياسية وفي الخطاب الثقافي العام.
انتفاضة الشباب الاحتجاجية وضعت الكاتب الحقيقي في مواجهة مع ذاته الإبداعية في التاريخ الثقافي المعاصر، فأمّا أن يكون بعيدًا عن هذه التحدّيات الحقيقية للوجود الإنساني، وبذلك يختار عزلته بنفسه، أو أن يكون حاضرًا في المتغيّر الثقافي العام، مشاركًا ومساهمًا وفاعلًا وراصدًا وموثّقًا، وفي هذا يحقّق وجوده في النصّ الإبداعي، فقد أشاعت حناجر الشباب ثقافة الاحتجاج السلمي، وإدانة الخراب من خلال ثقافة الكشف والإدانة والتمرّد على متسبّبي الخراب القيمي في المجتمع، ومن هذه البذرة تتجسّد أبعاد الفعل الثقافي لهذا الحراك، فقد استمدّ هذا الحراك قوّته من ثقافة الاحتجاج التي يبثّها «نصب الحرية» وجدارية فائق حسن في المتلقّي الداخل إلى ساحة الاحتجاج، هذا الاحتشاد البصري هو الحافز الفاعل للثبات على الموقف في وجه سلطة جائرة وسلاح منفلت.
فقد شكّلت حمامات السلام في جدارية فائق حسن مركزيَّة ثقافيَّة في تفكير الشباب الذي جاء عاريًا من أسلحة الغدر، ومتسلّحًا بوعي إصلاحي يدعو إلى تغيير النظام السياسي القائم على مغالطات نفعية لمجموعة أشخاص أو مجاميع، حيث ارتبط الإصلاح بالتغيير لاستعادة وطن معافى، لذلك كانت حديقة «الأمّة» مفتاحا رمزيا لدخول معركة التحرير في ساحة التحرير، تحرير الساحة من أيدي المتربّصين للبطش بالشباب، وهم يقفون خلف الحواجز الاسمنتية في منتصف جسر الجمهورية، أو يحتلّون مداخل الساحة من جميع الجهات، أو من أعالي سطوح البنايات المطلّة على الساحة، حيث يتواجد القنّاصة بأسلحتهم الفتّاكة لتمزيق صدور الشباب العالية.
لم تكن تلك المواجهة في حدّ ذاتها بين شباب غاضب، ونظام يبحث عن استتباب الأمن واستقرار البلاد والحفاظ على المصالح العامة، وإنّما كانت مواجهة بين نظامين ثقافتين- مختلفين في الرؤى والتوجهات، ولا يمكن أن تلتقيا على مشتركات وسطية، لذلك كانت المواجهة صعبة، فهي مواجهة وجود، وكلٌّ منهما يسعى لإزاحة الآخر، فقد استخدم الطرف الحكومي كلّ الإمكانات المتاحة لكبح صوت الحناجر الغضّة، على الرغم من أنّها وفّرت خيام المراكز الصحية في داخل الساحة، بما في ذلك سيّارات الإسعاف لنقل جرحى الرصاص الحيّ والقنابل الدخانية ورصاص القنّاص.
من هنا نرى أنّ ما كان يتحقّق على أرض الواقع من ممارسات يمثّل ثقافات متقاطعة تبحث عن حضور مركزياتها بشكل فاعل، فقد كانت مركزيات السلطة تسعى إلى تحقيق ذاتها من خلال قوّة السلاح وتجنيد من يدافع عنها في المواقع المختلفة، والتي لا يمكن للطرف الآخر القدرة للوصول لها، أو إنّها محتكرة من السلطة وغير متاحة لهم، بينما كانت مركزيات الشباب هي تهديم مركزيات السلطة التي تريد إشاعة الجهل والظلام والتضليل والفقر بين أفراد الشعب، وإدامة شعلة الرفض للفساد، وإشاعة قيم الإصلاح واستعادة الوطن، والعودة إلى إشاعة الأمل بعودة الحلم المسروق بحياة هانئة وسعيدة.
كانت المواجهة شرسة بين المنظومتين الثقافيتين، بين ثقافة «الأعزل» المسالم، مقابل ثقافة «المسلّح» القاتل المحمي من النظام القائم آنذاك، بينما بقيت خيام النقابات ومنظمات المجتمع المدني تقف موقف المتفرج الباحث عن واحة أثناء الأزمات لتحقيق مكاسب خاصّة، حيث كانت تضع قدمًا في ساحة الاحتجاج، وتتّجه بالقدم الأخرى إلى سلطة الحكومة، وغاب الدعم الشعبي الذي كان يفترض أن يكون متواجدًا في الساحة لحماية أرواح الشباب الشهداء الـ»800»، وأكثر من عشرين ألفا بين جريح ومعاق.
ويبقى السؤال: هل انتصر العنف على السلام؟ أو بمعنى آخر: القبح على الجمال؟ وما الذي حققه الأعزل في هذا الصراع الدموي؟ يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة بشكل مباشر في ضوء ما تحقّق من نتائج ظاهرية على أرض الواقع في حساب الربح والخسارة، لكن مثل هذه الاحتجاجات المفصلية التي تمثّل تقاطع ثقافات مركزيَّة بين أجيال مختلفة، أجيال تحكم، وأخرى محكومة تبحث عن حرّيتها، وتسعى لعيش حياتها في ظلّ هذه الحرية، بينما ترى الأجيال الحاكمة في هذه الحرّية فوضى وتجاوزًا على الحقوق العامّة، وهم يفسّرون الحقوق العامّة في أنّها حقوقهم في الحكم وإدارة البلاد كما يرونها، لا كما يراها عموم الشعب.
من هذا الفهم العامّ، أو التصوّر الميداني، قرأ الشعراء واقع الاحتجاج، وانفعلوا وتفاعلوا معه، فكان حضورهم في الميدان أكثر فاعلية من حضور مؤسساتهم الثقافيَّة، وكان أكثر صدقًا في بثّ انفعالاتهم مع الموقف الاحتجاجي العامّ، بينما راح الشباب في نفق التحرير يعمل على نسج حكايته الجمالية على جانبَي النفق، ليوثّقوا بأكفّهم الطرية الناعمة جماليات الشهادة في وجه العنف الدموي الوحشي الذي طال الشباب ليقطعوا نسل ديمومة التحدي للفساد، لكن ما تبقّى من أثر لهذه الاحتجاجات التي حقّقت بعضًا من أهدافها المعلنة يبقى كامنًا تحت السطح في قلوب الأمّهات وفي عموم الشعب الذي أدرك لاحقًا نتائج تركه للشباب الأعزل وحيدًا في المواجهة، هذه المواجهة التي أبقت شعلة الرفض والتحدّي وهّاجة، وبالإمكان إشهارها في وجه الفساد في أي لحظة بقوة وكثافة.
وهنا يكمن السؤال، كيف يمكن أن يكون شكل سردياتنا المعاصرة بعد هذه المواجهة؟ هل تتغيّر أنماط السرديات المتداولة، وتصبح أكثر التصاقًا بهموم وتطلّعات الشباب، وتديم المنطلقات التي ضحّى من أجلها الشباب بحياتهم؟ تغير هذه السرديات مرتبط بتغيّر المفهوم والرؤيا لدى الكُتّاب في التعامل مع الأحداث المفصلية والتعبيرعنها بعيدًا عن لحظات الانفعال الشعوري، وبعد هذه السنوات الأربع التي مضت، لا بدّ لنا من وقفة في مراجعة الذات ومكاشفتها فيما أنجز من سرديات في هذا الاتّجاه، لاسيما وإنّ هناك سرديات كتبها شباب من وسط الميدان، وهي تمثّل في حدّ ذاتها تحديًا كبيرًا للكُتّاب المحترفين الذين مازالوا يكتبون بنسقهم الذاتي لما قبل تشرين.