نوم الهلاهل

منصة 2023/10/19
...

  مرتضى الجصاني


وأنا أستمع إلى أغنية سامي كمال المطرب العراقي السبعيني بامتياز نقلتني هذا الأغنية إلى عقد فريد في تاريخ العراق، عقد ملون بالعشب والسهل والماء "والگاع" كما عبروا عنها شعراء السبعينيات ليس ذلك فحسب، بل أعادت هذه الأغنية ذكرى لطيفة كان قد رواها والدي لي.. تقول الأغنية :

"رايح يارايح وين.. ياويلي يابويه 

وبيا هاي أوصيك.. يابويه يابويه 

لا لا وحك الشوك.. ياويلي يابويه 

وملوحة البيك.. يابويه يابويه 

لا أكدر أروح وياه.. لا أكدر أظل وأنساه 

لا أكدر أخليك.. يابويه يابويه .

ويلي شحلاة الصوت.. لو بأسمك يصيح 

مني الكلب ينشال.. وي روحي ويطيح 

وليمته أظل أتانيك.. ياويلي يابويه".

لهجة ونفس ولون ومفردات وروحية مختلفة عن شعراء الأغنية السبعينية، هذه الأغنية من كلمات الشاعر اسماعيل محمد اسماعيل، الشاعر السماوي الذي يحمل عبق السبعينات وزرقة السماء ودفء الشمس في شتاء العراق.. ما دعاني للكتابة عن إسماعيل ليس شعريته المختلفة المميزة فقط، وإنما منفاه الذي رمي فيه في بداية عقد السبعينات، حيث نقل كموظف في ناحية جصان القريبة من الحدود العراقية الإيرانية والتابعة لمحافظة واسط. 

من اللطيف أن اسماعيل كان صديقا لوالدي، حيث يجتمع الموظفون وهم قلة قليلة في ذلك الوقت، وكلاهما كان يحب الشعر الشعبي، حيث صدر ديوان اسماعيل الأول، وأعتقد أن الأخير كان في العام ١٩٧٣ هو (نوم الهلاهل)، لا زالت نسخة منه في مكتبتنا. 

"نوم الهلاهل" لهجة مختلفة عن مجايليه من أمثال عريان السيد خلف وكاظم اسماعيل الگاطع وزامل سعيد فتاح وكاظم الرويعي وذياب كزار وغيرهم الكثير.. اسماعيل كان أيضا من ضمن هذا المناخ المليء بالثقافة والتدفق الشعري والبحث عن ذات مختلفة في القصيدة، وهذا ما تحقق في "نوم الهلاهل" بداية من العنوان الملفت المميز وليس نهاية بنصوص اسماعيل المختلفة التي تتضمن تراكيب صورية متنامية وأخرى مسترسلة ومتداخلة ومعتمدة على التضادات اللغويَّة كما في (نوم، الهلاهل). قد يكون العنوان إشارة إلى نوم كل الرغبات والأمنيات وصخب تلك الفترة التي عبر عنها بالهلاهل، كما أن هناك الكثير من هذه المثنويات المتضادة في ديوان اسماعيل، الذي يتضمن قصائد من نهاية الستينات وبداية السبعينات، وهو محاولة جادة للبحث عن تحقيق الذات الشعرية عبر ثقافة ووعي واطلاع جديد. وبالتالي توظيف مفردات حديثة من ضمن النص الشعبي بعيدًا عن غواية أسلوب النواب الذي طغى على شكل الشعر الشعبي آنذاك.  ولا شكَّ أن أسلوب النواب كان الشرارة التي أوقدت كل هذا الدفق الشعري، فشعر اسماعيل كان تعبيرا عن فترة مليئة بالأحداث الثقافية والسياسية، وما تعرض له الشاعر من نفي وسجن ومضايقات سياسية، لقد كانت دافعا قويا في تبلور ونضج تجربة اسماعيل الشعرية رغم أنه أصدر ديوانا واحداً في تلك الفترة على الأقل، إلا أنه كان مهما على مستوى الصوت الشعري المختلف الذي تجده في نصوص "نوم الهلاهل". ومن الجدير بالذكر أن نصوص اسماعيل تحولت إلى أغانٍ لطيفة وهادئة غناها المطرب سامي كمال بإحساس عال وأسلوب متفرد، وفي مجمل أغانيه كانت الشمس والدفء "والگصايب والگصب والضوه" مفردات تطرز سماء الأغنية، كما عند مجايليه تؤرخ لمرحلة سياسية وثقافية مثيرة للجدل وللنوستالجيا أيضا.