تسيّد العملة الوطنيَّة النقديَّة في التعاملات التجاريَّة

ريبورتاج 2023/10/22
...

   فجر محمد

بعد أن ضاق المنزل على هيفاء ماجد وأسرتها، ولم تعد تجد السكينة والراحة في المنطقة السكنيّة التي تقطنها، أصبحت تبحث عن بدائل جديدة علّها تجد خياراً يناسبها وبالفعل بدأت رحلة البحث عن دار جديدة، ولكنها تفاجأت بارتفاع أسعار المنازل إذ إن هناك مناطق سكنيّة تباع البيوت فيها بعملة الدولار، في حين أخرى تباع بالدينار المحلي والأمر يختلف بين حي وآخر.
تقول هيفاء: "عندما قررنا أنا وزوجي وأبنائي الانتقال من منزلنا هذا إلى آخر يناسبنا أكثر، تواصلنا مع عدد من مكاتب العقارات، ووجدنا أنهم يبيعون المنازل بالعملة الأجنبيّة خصوصاً في مناطق معينة وهذا الأمر بالنسبة لنا مكلف جداً، ولا نستطيع تحمل أعباءه".
وأصدر البنك المركزي العراقي قبل فترة زمنيّة قصيرة، بيانا أعلن فيه حصر التعاملات التجارية الداخليّة في مطلع العام المقبل، بالعملة المحليّة الوطنيّة وهي الدينار العراقي.
وفي تصريح سابق لـ (الصباح) أوضح مستشار رئيس الوزراء للشؤون المالية الدكتور مظهر محمد صالح، أن "التسعير بعملة بلد آخر (أجنبية) يُخضع المستوى العام للأسعار إلى اضطرابات السوق والمضاربين، مما يؤدي إلى حرمان السلطة النقديَّة من ممارسة الاستقرار بموجب قانون البنك المركزي رقم 56 لسنة 2004".

مؤشرات مهمة
تنطلق هيفاء برفقة زوجها كل يوم، للبحث عن منزل أو قطعة أرض ما لبنائها والاستقرار فيها لكن في كل مرة تبوء محاولاتهما بالفشل، بسبب ارتفاع أسعار العقارات خصوصاً مع تذبذب سعر صرف الدولار في الأسواق المحليَّة والركون إليه في التعاملات المختلفة، عوضاً عن العملة الوطنيَّة.
ويرى الاكاديمي والباحث بالشؤون الاقتصادية الدكتور عصام السعيدي أن حصر التعاملات التجارية الداخلية وغيرها بالدينار العراقي، هو إجراء طبيعي ويحدث في جميع الدول المستقلة ذات السيادة الوطنيَّة، التي لديها عملة محليَّة تتسيّد التبادل التجاري والأنشطة الاقتصادية المختلفة. ولكن في العراق يلجأ معظم تجار التجزئة وأصحاب معارض السيارات والسلع الكهربائيَّة والمعمرة، والعقارات إلى تسعير بضائعهم بالدولار، لأنَّ سعر صرف العملة الوطنيَّة وقيمتها متذبذبة بشكل يومي، ومن ثم عندما يريد أحد التجار بيع سيارة ما وشراء أخرى عوضاً عنها لا بدَّ أن يحوّل الدينار العراقي إلى دولار يشتريه من السوق السوداء. الأمر الذي يجده السعيدي أحد أسباب تدهور العملة المحليَّة وزيادة الطلب على الأجنبيَّة، مما يعني أن سعر صرف الدولار سيتزايد باستمرار في السوق الموازية مقابل الأسعار الرسميَّة.
وفي تصريح سابق للبنك المركزي العراقي أفاد أن دخول معظم التجار إلى قنوات التحويل الرسميَّة وتوفير الدولار بسعر مناسب، سيكون سبباً مباشراً في السيطرة على المستوى العام للأسعار وانخفاض نسبة التضخم، والذي يعدّ مؤشراً أساسياً في فاعليّة السياسة النقديّة، ويُبيّن البنك أنَّ سعر السوق السوداء لا يصلح مؤشراً كونه يتعلق بالدولار النقدي للعمليات غير الأصوليَّة، وليس مخصصاً لأغراض التجارة المشروعة.

تأثيرات كبيرة
يتجه محمود كريم كل صباح إلى محله الصغير الذي يبيع فيه الألبسة الرجاليَّة، وهو مثقل بالهموم والانزعاج من حال السوق، ففي كل مرة يشتري فيها محمود بضاعته يضطر لاحقاً إلى بيعها بسعر أقل من الشراء بسبب التذبذب في سعر صرف الدولار، وبينما هو يرتب بضاعته ويضعها على الرفوف، يوضح مدى القلق الذي ينتابه وزملاؤه في كل صباح من صباحات عمله إذ يتوقع الخسارة في كل مرة بسبب عدم استقرار الدولار، وهيمنته في الوقت نفسه على التعاملات التجارية بينهم وبين التجار.
يعتقد الباحث بالشؤون الاقتصادية والاكاديمي الدكتور ليث علي أن إصلاح السياسة النقديّة في العراق يعتمد على عدة إجراءات يجب أن تتخذها الحكومة أو البنك المركزي، لموازنة العرض والطلب على العملة الصعبة بما يؤثر ايجاباً على معدلات التضخم والفائدة. لافتاً إلى أنه في أغلب الأحيان تقوم الحكومات التي تتعرض إلى تعثر في نمو اقتصادياتها إلى إجراء تغييرات، تتعلق بإصلاح السياسة النقديَّة لرفع كفاءة أدائها. مبيّناً أنّه في الآونة الأخيرة اتخذت الحكومة العراقيَّة مجموعة من الإجراءات التي تهدف إلى القضاء على السوق الموازي والحد من تهريب العملة إلى خارج البلاد، لتمكين الدولة من الاحتفاظ بالاحتياطي الاستراتيجي، لدعم العملة وتوفير الصعبة منها  للإيفاء بالتزاماتها لاستيراد السلع الاساسية التي تحتاجها. ومن هذه الاجراءات حصر التعامل الداخلي بالعملة المحلية حصراً وهو الدينار العراقي. فهل هذا الإجراء كافيا للحد من الضغوط التضخميّة التي ترافق الاقتصاد العراقي بين الفينة والأخرى والذي يمكن ملاحظته من خلال ارتفاع الاسعار التي لم تهبط حتى في حالات تسعير الدولار بأقل مما كان عليه، وبأسعار الصرف الثابتة؟.

نوافذ رسميَّة
يعاني محمود وزملاؤه منذ فترة ليست بالقصيرة، من خسارات مالية متكررة بسبب الركود الذي اجتاح السوق في الآونة الأخيرة، اذ يرى محمود أن أغلب الزبائن الذين اعتادوا زيارة محله والتبضّع منه لم يعودوا كما في السابق، الامر الذي يعزيه إلى قلة القدرة الشرائيَّة وارتفاع سعر صرف الدولار وتذبذه، الذي انعكس على أسعار البضائع المختلفة. وأشار مستشار رئيس الوزراء للشؤون المالية الدكتور مظهر محمد صالح، أن الحكومة اتخذت قرار التعامل بالعملة المحلية (الدينار العراقي)، مع إصرار السلطة النقديَّة على أن يكون الدينار هو وحدة السداد والقيمة والتعاطي القانوني في المعاملات الداخلية، ولا يعتد بأي عملة أخرى في العراق إلا المحليَّة، أما العملة الأجنبية فهي لغرض التعاملات الخارجيّة فقط.
وينوّه الاكاديمي والباحث بالشؤون الاقتصادية الدكتور عصام السعيدي، إلى أن من واجبات الدولة توفير نوافذ وقنوات رسميّة لحصول هؤلاء التجار على الدولار بسعر رسمي، وان يمتلكوا سجلات رسميّة في غرف التجارة ودائرة الضريبة، مما يسهل عليهم فتح حسابات مصرفيّة من أجل الحصول على الدولار بالأسعار الرسميّة، وعندها لن يضطروا إلى التعامل بتلك العملة في إجراء معاملاتهم التجارية الداخلية، لأن شرط استخدامها قد انتفى، وإنما فقط في حال إعادة شرائهم للسلع التي يحتاجونها.

الإصلاح النقدي
من وجهة نظر الباحث بالشؤون الاقتصادية والاكاديمي الدكتور ليث علي، فإنَّ عملية الإصلاح النقدي في العراق تتطلب اتخاذ التدابير الرامية إلى تحسين الشفافية والمساءلة في السياسة النقديّة، وخفض التكاليف الاقتصادية للحفاظ على استقرار الأسعار، من خلال مجموعة من الإجراءات تبدأ بدعم الاحتياطي الأجنبي إلى مستويات أعلى لدعم الدينار العراقي، للسيطرة على معدلات التضخم. والحد من عمليات تهريب العملة، والوقوف بوجه الاستيراد الوهمي من خلال حصر التحويل بالبنك المركزي بناءً على إشعارات حقيقيّة من المنافذ الحدوديّة (الرسوم الجمركيّة وإشعارات الوصول). فضلاً عن محاسبة شركات الصيرفة ومراقبة أنشطتها كما هو الحال في معظم بلدان العالم. وأخيراً توفير العملة الصعبة لمحتاجيها من المواطنين في الحالات التي تتطلبها كالدراسة والعلاج والسفر. في حين يرجّح الاكاديمي الدكتور عصام السعيدي لجوء الدولة إلى إجراءات قسريَّة، لفرض التعامل بالدينار العراقي من شأنه أن يكبد التجار والباعة المزيد من الخسارات، أو يجبرهم على رفع أسعار بضائعهم لتقليل الخسارة الماليَّة، ومن ثم ستؤثر على المواطن بالتأكيد.
وفيما يخص مستقبل الاستثمار في البلاد، يعتقد السعيدي أن هذه الاجراءات ستكون ايجابيّة جداً، اذا ما توفرت الشروط اللازمة لاستقرارها وتطبيقها بشكل صحيح، لأن العملة المحليّة ستشهد حينها استقراراً واضحاً، وسترتفع قيمة الدينار العراقي ومن ثم سيتشجع المستثمرون على الاستثمار مستقبلا في العراق، لاستقرار وضعه الاقتصادي الذي سينعكس على استقرار حسابات المستثمرين وعوائدهم المالية أيضاً. وكل هذا يعد من أهم عوامل الجذب للمستثمرين من خارج البلاد.