مسلم غالب
مابعد الكولونيالية هي إطار نظري في الدراسات الاجتماعية تفحص الآثار الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية للاستعمار والإمبريالية على المجتمعات التي تم استعمارها وتقدم نقدا للمركزية الغربية في مجال الدراسات الاجتماعية و تفضح النظرة الاستعلائية المبطنة في الدراسات للغربية بالنسبة للشرق و مجتمعاته. ظهرت كرد فعل على إرث الاستعمار والنضالات المستمرة للشعوب التي تم استعمارها من أجل تقرير مصيرها والهوية الثقافية والعدالة الاجتماعية. يحلل علماء مابعد الكولونيالية الطرق التي شكل فيها الاستعمار العالمَ الذي نعيش فيه اليوم، بما في ذلك التوزيع العالمي للقوة والثروة والموارد، وكذلك الآثار الثقافية والنفسية للاستعمار على المستعمَرين والمستعمِرين.
إدوارد سعيد كان عالما وناقدا أدبيا فلسطينيا أمريكيا بارزا معروفا عالميا بمساهماته في مجال الدراسات ما بعد الكولونيالية. في أعماله، استكشف سعيد الطرق التي شكل بها الاستعمار والإمبريالية العالم وثقافاته، وكيف أن هذا التراث ما زال يؤثر في المجتمع المعاصر. كانت إحدى المساهمات الرئيسية لسعيد في الفكر ما بعد الاستعماري هي نقده للاستشراق، الذي عرفه على أنه نظام للمعرفة والتمثيل ينظر للشرق على أنه غريب وغامض وأدنى من الغرب. وفقًا لسعيد، فإن الاستشراق هو شكل من أشكال الهيمنة الثقافية التي تعزز الهيمنة الغربية على الشرق من خلال تكرار الصور النمطية والأساطير حول شعوبه وثقافاته.
وأكد سعيد أنّ الاستشراق ليس مجرد مجموعة من الأفكار، بل هو نظام معقد للعلاقات السلطوية يعمل من خلال مؤسساته المختلفة. كما أكد على دور الأدب في تكرار الصور النمطية الاستشراقية، ودعا إلى مزيد من النهج النقدي والوعي الذاتي في القراءة والكتابة عن الشرق.
تستند نظرية سعيد للاستشراق على فكرة أن الغرب قام ببناء تناقض ثنائي بين نفسه وبين الشرق، حيث ينظر إلى الغرب على أنه عقلاني وحديث وأفضل، بينما ينظر إلى الشرق على أنه غير عقلاني وتقليدي وأقل قيمة. يتم تعزيز هذا التناقض الثنائي من خلال تمثيلات ثقافية مختلفة، مثل الأدب والفن ووسائل الإعلام، التي تواصل الأساطير والصور النمطية عن الشرق.
بالإضافة إلى نقده للاستشراق، استكشف سعيد أيضًا الطرق التي أثر بها الاستعمار على حياة وهويات الشعوب المستعمرة. وأكد أنّ الكولونيالية لم تشمل فقط الاحتلال الجسدي للأراضي، بل أيضًا فرض الهيمنة الثقافية والنفسية على الشعوب المستعمرة. وأدت هذه الهيمنة، وفقًا لسعيد، إلى شعور بالاغتراب والتشرد بين الشعوب المستعمرة، فضلاً عن فقدان التراث الثقافي والهوية. يؤكد سعيد أن الاستشراق ليس مجرد مسألة دراسات أكاديمية، ولكن له أيضًا عواقب في العالم الحقيقي. حسب رأي هذا المفكر الفلسطيني أن تمثيل الغرب للشرق قد استخدم لتبرير الاستعمار والهيمنة الغربية على الشرق. من خلال تصوير الشرق على أنه أقل قيمة وبحاجة إلى تدخل غربي، تمكن الغرب من تبرير أفعاله في الشرق، بما في ذلك التدخلات العسكرية والاستغلال الاقتصادي والهيمنة الثقافية.
ولاتخلو آراء ادوارد سعيد عن التطرق إلى الصهيونية وإسرائيل باعتباره إنتاجا للهيمنة الغربية وفرض كيانه بالقوة و العنف عبر احتلال الأراضي العربية في فلسطين، وخلق خطاب ايديولوجي يزيف الحقيقة لبسط هيمنة الكيان المحتل و تبرير ممارساته البشعة بحق الشعب الفلسطيني.
بشكل عام، كان لعمل سعيد في مجال ما بعد الكولونيالية وعبر نظرية الاستشراق، تأثير كبير على مجال الدراسات الثقافية والنقد الأدبي وساعد في تشكيل فهمنا لتراث الاستعمار والإمبريالية في العالم الحديث. وما زال نقده للاستشراق وتأكيده على أهمية الوعي الذاتي والتفكير النقدي يظل ذا صلة اليوم، حيث نتعامل مع قضايا الهامش و المركز وعدم المساواة العالمية.