الأسطورة الصهيوأميركيَّة بين العقل اللاهوتي والأيديولوجيا السياسيَّة
أوس حسن
في الأيام الأولى من أحداث غزة، وبعد العمليَّة الصادمة وغير المتوقعة التي نفذتها فصائل المقاومة الفلسطينيَّة في اختراق التحصينات الاستخباراتيَّة والعسكريَّة لدولة الكيان الصهيوني، خرج الرئيس الأميركي جو بايدن على شاشات التلفزة العالميَّة ليلقي خطاباً عاطفياً يوضح فيه مساندة أميركا لإسرائيل وأمنها، وبغض النظر عن المواقف المعروفة والمساندة لدولة الكيان من قبل رؤساء أميركا على مرّ تاريخها، إلا أنَّ هذا الخطاب كان يحتوي على مجموعة من الرموز والإشارات الملغَّمة ذات الطابع الديني التوراتي، وهو أمرٌ ليس بالغريب في خطابات بعض الرؤساء الأميركيين الذي يؤدون القسم السري في كنيسة الرؤساء على الولاء لإسرائيل وشعب الله المختار الذي يجسد الإرادة الإلهيَّة الموعودة على هذه الأرض.
لقد استشهد الرئيس الأميركي ببعض النصوص التوراتية، وقال: «هل تدرون لماذا إسرائيل معجزة؟.. لأنها بكل بساطة، هي إسرائيل.. الأمل الوحيد لهذا العالم».
وقبل أنْ أدخل في عمق النقطة التحليليَّة للأسطورة الصهيوأميركيَّة، لا بُدَّ أنْ نشير إلى أنَّ الخطابات التي تحوي رموزاً دينية واستشهادات من النص التوراتي أمرٌ شبه مألوفٍ في تاريخ الزعامة الأميركيَّة.
هاري ترومان
كان الرئيس الأميركي الأسبق هاري ترومان والذي تزعم رئاسة الولايات المتحدة الأميركيَّة من العام 1945 إلى العام 1953، هو الأكثر تجسيداً للصهيونيَّة الأميركيَّة في العصر الحديث. وقد شجع على هجرة اليهود إلى فلسطين من جميع أقطاب العالم، لتأمين أغلبيَّة يهوديَّة في فلسطين في ظل الانتداب البريطاني تمهيداً لتحويلها إلى دولة يهوديَّة.
كان ترومان يؤمن بالمعتقد الأسطوري للوطن القومي اليهودي وكان معروفاً بانتمائه التوراتي العميق بفكرة البعث اليهودي، وأنَّ الدفاع عن هذا الكيان يُعدُّ عملاً دينياً.
ولم يخفِ ترومان إعجابه الشديد وولعه بالنص التوراتي (مزمور 137)، الذي يقول: (لقد جلسنا قرب أنهار بابل، وأخذنا نبكي حين تذكرنا صهيون).
ويُنقل عن ترومان أنَّه في كل مرَّة يقرأ فيها قصة إنزال الوصايا العشر في سيناء، كان يشعرُ بوخزٍ خفيفٍ يسري في عروقه ودمه.
رونالد ريغان
أما الرئيس الأميركي رونالد ريغان فقد كان من المؤمنين بأسطورة هرمجدون التوراتيَّة أو حرب نهاية العالم التي سيقوم فيها المسيح ويحكم العالم من إسرائيل ويخلص أتباعه المؤمنين من المجازر التي يرتكبها بحقهم الكفار؛ والمقصود بالكفار هنا هم الملحدون وغيرهم من الطوائف والأديان التي لا تدين باليهوديَّة الحديثة أو الصهيونيَّة المسيحيَّة. وقد كان الرئيس الأميركي ريغان يمثل بالنسبة لأتباع الصهيونيَّة المسيحيَّة المحقق لأهداف الله في الشرق الأوسط، ولم ينفك ريغان بالحديث الدائم عن أسطورة هرمجدون وهو مرشح للرئاسة الأميركيَّة عام 1980. وقد قال في إحدى المقابلات التلفزيونيَّة التي أجريت معه:»إننا قد نكون الجيل الذي سيشهد هرمجدون، وقد تكون نهاية العالم على أيدينا».
يقول ريغان: «أتمنى أنْ يكرمني الله بالضغط على الزر النووي لأقوم بتعجيل العودة الثانية للمسيح».
ومن هنا ترى المسيحيَّة الصهيونيَّة أنَّ على البشر أنْ يساعدوا الله في تحقيق الإرادة الإلهيَّة، وهذه الصهيونيَّة نشأت في أوروبا على يد اليهود المهاجرين، وقد سبقت الصهيونيَّة الحديثة التي أسسها تيودور هيرتزل بمئات الأعوام.
الصهيونيَّة المسيحيَّة وتاريخ نشأتها
وفقاً لكتاب (الصهيونيَّة المسيحيَّة) الذي أصدره الكاتب والمفكر اللبناني محمد السماك تعدُّ الصهيونيَّة المسيحيَّة عقيدة أيديولوجيَّة سياسيَّة يختلط فيها العمل العسكري والسياسي مع الأسطورة الدينيَّة، فهناك فئة من المسيحيين الإنجيليين تؤمن بالعودة الثانية للمسيح إلى أرض فلسطين، وهذه الفئة منضوية في كنيسة أميركيَّة تُسمى الكنيسة التدبيريَّة، والتدبيريَّة تعني أنَّ كل شيء مدبرٌ وفق خطة مبرمجة وشاملة؛ وتؤمن هذه الكنيسة بأنَّ العودة الثانية للمسيح مرهونة بعدة شروطٍ وتنبؤات توراتيَّة في العهد القديم؛ أولها قيام دولة إسرائيل، وقد قامت إسرائيل بالفعل عام 1948، وقد عدَّ الكثير من أنصار الصهيونيَّة المسيحيَّة في أوروبا وأميركا أنَّه أعظم حدثٍ تاريخي، لأنَّه جاء مصادقاً للنبوءة الدينيَّة. والثاني هو احتلال مدينة القدس وجعلها عاصمة أبديَّة وموحدة لعاصمة إسرائيل. وقد احتلت إسرائيل القدس عام 1967 بعد نكسة حزيران وبعد خمسين عاماً، وتحديداً في 16 ديسمبر من العام 2017 تمَّ الاعتراف بالقدس رسمياً عاصمة لإسرائيل من قبل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
أما الإشارة الثالثة فهي إعادة بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى، هذا المشروع ما زال العمل عليه جارياً وتُصرف عليه الكثير من الأموال والدعم المعنوي والإعلامي، وهذه الإشارة الأخيرة التي ظلت معلقة في ظل هذه الحرب التي قد تكون الأخيرة بالنسبة للطرفين.
وبعد اكتمال بناء الهيكل كما يذهبُ أنصار المسيحيَّة الصهيونيَّة فإنَّه ستقع معركة هرمجدون التي تتعرض فيها الدولة اليهوديَّة لهجومٍ من غير المؤمنين والملحدين، فتقع مجزرة بشريَّة كبيرة تُستعمل فيها أسلحة كيمياويَّة ونوويَّة مدمرة يُقتل فيها مئات الآلاف من اليهود والمهاجمين، فيقوم بعدها المسيح ليحكم العالم من أرض صهيون كما تقول هذه الأسطورة.
وبناءً عليه تستند الصهيونيَّة المسيحيَّة على قاعدة رئيسة تربط الدين بالقوميَّة، لأنها ترى أنَّ اليهود هم شعبُ الله المختار والأفضل بين الأمم، وهناك ميثاقٌ إلهيٌّ يربطُ اليهودَ بالأرض المقدسة في فلسطين، وقد أعطى الله للنبي إبراهيم هذا الميثاق الأبدي حتى قيام الساعة أو يوم الدينونة. أما الأمر الأخير والخطير فقد تمَّ ربط الإيمان المسيحي بعودة المسيح وقيام دولة صهيون وتجميع اليهود فيها.
لكنْ كيف نشأت المسيحيَّة الصهيونيَّة في أوروبا؟، وكيف تمَّ اختراق الكنيسة في أوروبا وخلخلة مفاهيمها ومعتقداتها الراسخة؟
هجرة اليهود من المجتمعات الإسلاميَّة إلى أوروبا
يذكر الكاتب والمفكر اللبناني محمد السماك في كتابه «الصهيونيَّة المسيحيَّة» نشأة هذا المفهوم العقائدي الأسطوري وبداياته الأولى، ثم كيف تحول بالتدريج إلى خطابٍ ديني ومجتمعي تغلغل في الأوساط الفكريَّة والثقافيَّة والسياسيَّة.
بعد سقوط غرناطة عام 1492، تعرض المسلمون واليهود للعديد من المجازر وعمليات الإبادة الجماعيَّة، وكان اليهود الأوروبيون أيضاً يتعرضون لشتى أنواع الظلم والاضطهاد، لذلك فقد جلب المهاجرون اليهود من إسبانيا ثروة علميَّة وماليَّة جمعوها من حاضرة الأندلس بعد سقوط غرناطة بيد الإسبان، هاتان الثروتان كانتا الأساس في تغلغل اليهود في المجتمع الأوروبي.
لقد سرب اليهود إلى الكنيسة عبر حركة الإصلاح الديني بأنَّهم شعبُ الله المختار، وأنَّ الله يحبُ من يحبهم ويحسن إليهم، ويعاقب من يعتدي عليهم، ومن هنا بدأت فكرة الشعب التي تستوجب أيضاً فكرة الوطن.
كان جون كالفن وهو من أصل يهودي أبرز من تأثر بتهويد الكنيسة، وغيره من التطهيريين الذين آمنوا بتفسيرٍ وضعي لنبوءات التوراة التي تقول إنَّ المسيح سيظهر لا محالة، وإنَّ ظهوره حاصلٌ بين اليهود وفي صهيون، فلا بُدَّ من إقامة صهيون وتجمع اليهود فيها.
إذن يمكننا القول إنَّ الصهيونيَّة المسيحيَّة انطلقت من الاختراق اليهودي لحركة الإصلاح في الكنيسة البروتستانتيَّة، ليصبح العهد القديم على مرِّ الزمن المرجع الوحيد والأعلى لفهم العقيدة المسيحيَّة، ثم أصبحت الصهيونيَّة المسيحيَّة في ما بعد حركة سياسيَّة تبناها العديد من الاستراتيجيين الأوروبيين في إنكلترا وفرنسا وأميركا، الذين نادوا بإقامة وطنٍ قوميٍ لليهود في فلسطين لربط مصالح إمبراطورياتهم وأطماعهم التوسعيَّة في المشرق العربي.
تغلغل الصهيونيَّة المسيحيَّة في الخطاب السياسي والفكري في أوروبا
في العام 1839، نشر اللورد البريطاني شافستيري والمعروف بـأنطوني آشلي كوبر، مقالاً يقع في ثلاثين صفحة أكد فيه أنَّ اليهود سيبقون غرباءً حتى يعودوا إلى أرض فلسطين، وأنَّ الإنسان قادرٌ على تحقيق إرادة الله بتسهيل هذه العودة، لأنَّ اليهود هم الأمل في تجدد المسيحيَّة وعودة المسيح، وكان اللورد كوبر أول من رفع شعار «أرضٌ بلا شعب لشعبٍ بلا أرض».
وقد صدرت في فرنسا وألمانيا والدول الاسكندنافيَّة كتبٌ تدعو إلى تسهيل توطين اليهود في فلسطين، وتمَّ تعميم أدبيات الصهيونيَّة المسيحيَّة في جميع شرائح المجتمع الأوروبي، وأصبح لها قواعد فكريَّة ونسقٌ متداولٌ في الأدب والفن والمعرفة، فقد ترددت بعض هذه الأفكار في قصائد وأعمالٍ أدبيَّة عند اللورد بايرون وكولريدج وألكسندر بوب.
وتُعدُّ رواية جورج إليوت «دانيال ديروندا» من الأدبيات التوراتيَّة التي بشرت بقيام دولة إسرائيل اليهوديَّة كجمهوريَّة تسودُ فيها العدالة والحريَّة والرخاء.
وعكس ذلك أيضاً جون ميلتون في قصيدته الملحميَّة «الفردوس المفقود»، وبشكلٍ واضحٍ يعبر عن فكرة شعب الله المختار وأرض الميعاد عندما قال: «إنَّ الله سيشق لليهود طريق البحر ليعودوا مسرورين إلى وطنهم كما شقَّ لهم طريق البحر الأحمر ونهر الأردن عندما عاد آباؤهم إلى أرض الميعاد. إنني أتركهم لعناية الله وللوقت الذي يختاره من أجل عودتهم».
العقل الغربي اللاهوتي وأزمة المثقف العربي
علينا ألا نستغرب عندما نرى أنَّ معظم دول أوروبا من حكومات ومؤسسات إعلاميَّة وثقافيَّة تستميتُ في الدفاع عن إسرائيل وجرائمها المنظمة ضد الشعب الفلسطيني، لأنَّ العقل الغربي هو عقلٌ لاهوتيٌ ميتافيزيقيٌ صنعته الأسطورة الصهيوأميركيَّة، وقد تغلغل هذا العقل المحشو بالأوهام المقدسة حدّ العنف والتوحش في أغلب مفاصل المجتمع الأوروبي، وفي بعض خطاباته القائمة على الكراهية والعنصريَّة ضد المسلمين والشرقيين والأفارقة، إذ يرون في هذه الشعوب أنها فائضٌ على الحاجة البشريَّة، لأنَّ منطق القوة والمعرفة والثروة هو المنطق الذي يمنح الحياة الكريمة للإنسان في نظر الأوروبيين، والذي يجب أنْ يكون حكراً على العرق المتفوق وعلى شعب الله المختار، وهذا ما يفسر النظرة الاستعلائيَّة لكثيرٍ من مفكري ومثقفي الغرب وصمتهم أمام مجزرة الإبادة الجماعيَّة والتطهير العرقي في غزة.
إنَّ مفاهيم التنوير والحداثة والتعدد والاختلاف والعقل التواصلي هي أحد أكبر الأوهام التي تمَّ تصديرها إلى الشرق الأوسط، وقد تخلت عنها الحضارة الغربيَّة منذ زمنٍ طويل، فقط المثقفون والمتفلسفون العرب الذي يحبون الاستعراضات ما زالوا يمارسون هذه الخدعة الكبرى؛ خدعة العالم المتحضر وحقيقته المتوحشة تحت قناع المدنية وحقوق الإنسان.
بقي أنْ نقول أخيراً إنَّ أميركا والحضارة الغربيَّة تكرهان وتنبذان كل حضارة لها جذورٌ وأصلٌ مركزي. والكثير من المصطلحات المعرفيَّة والمسميات الفلسفيَّة في القرن العشرين استخدمتها السياسة الصهيوأميركيَّة في استراتيجيتها السياسيَّة وحربها على العرب والمسلمين مثل: (التفكيك، الهدم والبناء، اللامركزيَّة، النسق، الهوية، الهجرة والترحال...الخ).
إنَّ المثقف العربي ما انفكَّ يردِّدُ هذه المصطلحات كالببغاء في حواراته ومجالسه الاستعراضيَّة، مع افتقاره لأدنى طاقة من التفكير تمكنه من استخدام تلك المفاهيم بشكلٍ عكسي لتفكيك العقل الغربي، ومن دون أنْ يعي أنَّ المنطقة العربيَّة لم تصل بعد إلى مرحلة الحداثة ولم تغادر المركزيات، فكان الانتقال من مرحلة زمنيَّة إلى أخرى مع مسمياتها وخطابها الجديد هو أسلوب القوى الاستعماريَّة المتفوقة التي تفرضُ ثقافتها وقيمها على الشعوب الحرة الراسخة في أرضها منذ القدم.
إنَّ اللامركزيَّة هي التشظي والغربة والشتات وانعدام اليقين في الحياة، وهي تحمل رموزاً وإيحاءات توراتيَّة للروح اليهوديَّة العالقة في التيه، تلك الروح التي بقيت مهاجرة وغريبة عن كل أرضٍ سكنتها.