رفيق هودجيتش
ترجمة: مسلم غالب
أنا صحفي وكاتب وناشط في مجال العدالة من البوسنة والهرسك. لقد تأثرت بشدة بالإبادة الجماعيّة التي شهدها بلدي في التسعينيات. تم نقل العديد من أفراد عائلتي إلى معسكرات الاعتقال، وارتكبت أبشع الجرائم في ذلك العصر في مسقط رأسي. كما عملت لعقود من الزمن كخبير اتصالات ستراتيجية في مجال العدالة بجميع أنحاء العالم، من سوريا إلى سريلانكا. باعتباري شخصًا تأثر بالإبادة الجماعيّة في البوسنة وشارك بالعديد من عمليات العدالة الانتقاليّة، ينتابني شعوران مختلفان عندما أنظر إلى الأحداث التي تتكشف في إسرائيل وفلسطين. الأول هو الرعب المطلق إزاء رؤية المعاناة الهائلة التي يتعرض لها سكان غزة. وهذا لا يقلل بأي حال من الأحوال من الألم الذي أشعر به تجاه أولئك الذين قُتلوا أو احتجزوا كرهائن على يد حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. إنني اعترف بمعاناة الجميع. ومن المهم الاعتراف بمعاناة الجميع. ومع ذلك، فإن ما نشهده في غزة الآن هو عرض مذهل لما يحدث عندما تطلق قوة متفوقة العنان للانتقام من المدنيين العزل. ويملأني الرعب. وربما يكون الشعور الثاني الذي يراودني تجاه غزة أقل وضوحا. عندما أنظر إلى الأحداث الجارية في القطاع، أدرك الامتياز الذي اتمتع به كمواطن بوسني. معظم الجرائم التي ارتكبت في بلدي، ضد شعبي، تمت معالجتها في محكمة قانونيَّة. الأشخاص الذين ارتكبوا تلك الجرائم، على الأقل على أعلى المستويات، تمت محاكمتهم. لقد تم إثبات حقيقة ما حدث لنا بما لا يدع مجالاً للشك. وبطريقة ما، تمت إعادة الكرامة إلى ضحايا الإبادة الجماعية البوسنيين وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية من خلال هذه العمليات.
ولا استطيع أن اتخيل شعوراً مماثلاً بالرضا يتم تقديمه لضحايا العنف في غزة في ظل الظروف الحالية. أشعر بالفخر كمواطن بوسني، وأعلم أن ما كان ممكنًا بالنسبة لنا في ذلك الوقت لن يكون ممكنًا على الأرجح للفلسطينيين في غزة اليوم، وهو ما يثقل على ذهني. وهذا لا يعني أن ما حدث لنا يحدث الآن في غزة. اعتقد أنه من المهم جدًا الاعتراف بالسياقات المختلفة وعدم عقد مقارنات خاطئة. ولكن لاشك أن هناك نقاط مشتركة واضحة جداً بين الاثنين. على سبيل المثال، نفس الحجج التي كانت تستخدم لتبرير ممارسة العنف على البوسنيين تستخدم الآن ضد الفلسطينيين في غزة. بحجج مثل أنهم "ليسوا مدنيين" وأنهم جميعا من أنصار القوات التي تقاتل باسمهم. حجج مثل "كلهم إرهابيون وجهاديون". وكانت هذه اللغة نفسها تُستخدم ضد البوسنيين في ذلك الوقت.
وهناك تشابه آخر أرى بين البوسنة آنذاك وغزة الآن، وهو الإرهاب الذي كان يتعرض له المدنيون. حيث إن الإرهاب الذي أتحدث عنه ليس فقط القتل العشوائي للنساء والأطفال، بل أيضا الجهود الرامية إلى ترويع شعب بأكمله وإرغامه على الاستسلام. وتشمل هذه الجهود طرد السكان من منطقة معينة أو حملهم على قبول المطالب بالقوة.
أنا لست محاميا. ونحن لسنا في محكمة قانونيَّة. لذلك لا استطيع التكهن بما إذا كان الوضع في غزة يقود نحو الإبادة الجماعيّة. ومع ذلك، فأنا أعلم جيدًا على أي أساس تم إثبات جريمة الإبادة الجماعيّة قانونيًا في سربرينيتسا، بالبوسنة. لذلك يمكنني أن أحاول توضيح ذلك وإجراء مقارنة. في سريبرينيتسا، كان هناك جيب تحت الحصار. أدعى الصرب أن القوات من الجيب كانت تخرج وتهاجم المدنيين الصرب، لذلك كان هذا هو سبب الإبادة الجماعية. وزعموا أن ما فعلوه بالبوسنيين كان مجرد انتقام لما فعلته القوات البوسنية بهم. ومع ذلك، في النهاية، راجعت المحاكم الأدلة، ونظرت في ما حدث في سريبرينيتسا، وقررت بأنّها كانت إبادة جماعيّة. لقد أثبتوا أن الأولاد والرجال من مجموعة معينة قُتلوا حتى لا تتمكن المجموعة من التجدد والاستمرار في العيش في المنطقة التي احتلتها لفترة طويلة.
لتأسيس جريمة الإبادة الجماعية يجب أن تتوافر أركان الجريمة، بما في ذلك قتل أفراد المجموعة، وإلحاق أذى جسدي وعقلي خطير بأفراد مجموعة معينة لإحداث التدمير الجسدي لتلك المجموعة، كليًا أو جزئيًا، بالقوة. نقل الأطفال والتدابير المفروضة لمنع الولادات داخل المجموعة. وتلك هي الجرائم التي تشكل جريمة الإبادة الجماعيّة. ولكن لكي يتم اعتبار الإبادة الجماعية جريمة، يجب أيضًا أن تكون نية لتدمير مجموعة ما كليًا أو جزئيًا في منطقة معينة. وقد ثبت ذلك أيضًا في سريبرينيتسا.
يمكننا أن نرى بوضوح أن بعض الجرائم المذكورة أعلاه تُرتكب بالفعل في غزة. وإذا نظرنا إلى تصريحات القادة، والسياسيين الإسرائيليين، وأعضاء البرلمان، والصحفيين وصناع الرأي الإسرائيليين، يمكننا أن نرى أن نفس "النية" موجودة أيضًا بشكل كبير. ويتم الإعلان عن هذه النية بشكل يومي. فإذا قال وزير في دولة ما إن الجيش سيدخل إلى منطقة ما ويتعامل مع "حيوانات بشريّة" فإن القصد هنا واضح بلا شك. والآن، مرة أخرى، أكرر أنا لست محامياً. ليس من حقي أن أحكم على هذا. ولكن من تجربتي، ومما أعرفه عن الإبادة الجماعيّة، استطيع أن أقول بأنّ جميع العناصر موجودة في غزة. رفيق هودجيتش، هو صحفي وصانع أفلام وناشط في مجال العدالة من البوسنة والهرسك
المصدر: الجزيرة دوت كوم