أثر المفاهيم في إدارة الصرعات

منصة 2023/11/01
...

 حازم رعد

غالباً ما يتمّ الصراع بين الأفراد والجماعات وصولاً الى الدول والتحالفات عبر أو وفقاً لـ «مفاهيم» تختلفُ عليها تلك الأطراف فتصل حدَّ الخصومة، حتى تؤدي إلى نشوب صدعٍ وصدامٍ بين طريقين أو أكثر يخلف عنه معاناة ومأساة وويلات يقع القسط الأكبر منها على الأبرياء والعزَّل الذين لا شأن لهم لا بالحرب ولا 

بالمفاهيم.

هذه المفاهيم تأتي معبرة إما عن سيادة الدولة على أراضيها، أو رداً على التجاوزات على حقوقٍ معينة، أو هي بالأساس شماعة توضع لتبرير الحروب والغزو والاستعمار كما يحصل ذلك قديماً وحديثاً، فما من صراع إلا وتوجد تحته أو معه مجموعة من المفاهيم تمثل إما بيدق الصراع أو الذريعة التي يبرر من خلالها الصراع.

فالحرب على طروادة في أدبيات الإغريق القدماء كانت الحجة التي تساق لتبريرها هو لغسل العراق الذي لحق بالملك جراء فاحشة اقترفتها زوجته مع أمير طروادة، والحروب التي شنها الاسكندر الأكبر وغزا من خلالها بلاد الشرق القديم وضمها الى امبراطوريته كان المسوغ لها «حكومة واتحاد عالمي يسوده الإنصاف ويشاع فيه العلم والمعرفة». 

كذلك حروب الردة وما رافقها من ظلمٍ وتنكيلٍ بالخصوم واضطهادٍ للأبرياء تحت يافطة الامتناع عن دفع المستحقات وعدم البيعة والارتداد وكل تلك مفاهيم مستخلصة من النصوص الدينيَّة وظفت بشكلٍ يخدم الإيديولوجيا المهيمنة والمسيطرة.

غزو ما يسمى بدول العالم الثالث «الشرق أوسطيَّة» التي استضعفها الغازي تحت شعارات تعزيز الحريات وحقوق الإنسان وإرساء الديمقراطيَّة كنظام حكمٍ وبالتالي لم يجر إلا الاهتمام بنهب البترول والطاقة واستثمار الأموال وأخذ أتاوات كضرائب تجبى من الدول التي تقعُ تحت حماية البارجات الأميركيَّة وقوى التحالف الكبرى، وأيضاً كمثالٍ يعزز ما نرنو قوله في أنَّ احتلال أرض فلسطين من قبل الإسرائيليين المدعومين من الغرب كان وفق مفاهيم أرض الميعاد وحلم صهيون وبناء دولة اليهود القوميَّة.

وعلى حدٍ سواء تستثمرُ المفاهيم الدينيَّة والفلسفيَّة والاجتماعيَّة لتنفيذ أغراضٍ مشابهة، ألم تستعمل المفاهيم الدينيَّة لخدمة الكهنوت ورجال السلطة؟، ألم يستباح العراق باسم الديمقراطيَّة؟

ألم يقتل صدام والقذافي وغيرهم شعوبهم باسم النظم العلمانيَّة والنازيَّة والفاشيَّة وغير ذلك من الأمثلة؟.

فعليه إنَّ ما من حجرٍ يوضع على آخر ليشيد بناءً، وما من صراع يندلع بين أطرافٍ متخاصمة، وإنَّ أي حربٍ تجري بين دول وجماعات إنما تقومُ وتتأسسُ على مفاهيم وقوالب فكريَّة تسوق لطرفي الصراع الدائر معادلة البدء بالصراع ورده والتحدي والاستجابة بالفعل ورد الفعل.

فعادة ما تلعب المفاهيم دوراً محورياً وتمثل المركز في حلبة الصراع الذي يدور في مختلف الأروقة وبخاصة رواقي الصراع الديني والسياسي الديني والسياسي السياسي، وحتى السياسي الديني مع الاجتماعي.

وكم من الفجائع التي ارتكبت كان المبرر لها مفهوماً إما ديني أو سياسي أو ما يلحق ذلك أمنياً مثل (مكافحة الإرهاب، والتمشيط الأمني، وحفظ السلام، وتعزيز الديمقراطيَّة، والتطهير العرقي، ومعاداة الساميَّة، والتصنيفيَّة التمييزيَّة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومفاهيم محاكم التفتيش، والصليبيَّة). 

الثورة الفرنسيَّة أكلت رجالها بتعبير ديدرو، لأنها انقلبت على نفسها وقتل رجالها بالمقصلة وتحت يافطة قانون الإرهاب، والظاهرة الروبسبيريَّة خير شاهدٍ على ذلك، ناهيك عن استعمار العالم الشرقي من قبل حكومات أنتجتها مفاهيم الثورة الفرنسيَّة، فنابليون بونابرت خيرُ شاهدٍ على الحدث الاستعماري كمعطى للثورة والتسامح.

يبدو لي أنه صار واضحاً وبالإمكان القول إنَّ فكرتي العلمانيَّة والديمقراطيَّة مجرد موظفين أو عاملين يشتغلان على خدمة أغراض المشروع الأميركي في ما يسمونه بالعالم الجديد، ومثل ذلك في الشرق، استثمرت العديد من المفاهيم الدينيَّة والإنسانيَّة لخدمة الكهنوت وتبرير الظلم.

إنَّ غالبيَّة المفاهيم المنتجة تستغل لتأديَّة أدوارٍ معينة في أزمنة محددة، فعندما يحتاج المستكبر إلى تنفيذ مشاريعه الاستيطانيَّة لو الاستعماريَّة ونهب خيرات الآخر المستضعف يلجأ أول الأمر إلى تهيئة الأرضيَّة المناسبة عبر نشر وإرساء وترسيخ المفاهيم ثم يخلق جواً من الجدل عليها بعد ذاك يتدخل بصورة مباشرة أو عبر قنوات لحسم الأمر والحظوة بأهداف المشروع.. وهذا الأمر صار من الواضحات التي لا تخفى.

وهذا أمرٌ نعيشه أحياناً في حياتنا اليوميَّة.. فكم من الأبرياء وبسطاء الحال وفئات من المغفلين استخدموا لتنفيذ مشاريع لا تعنيهم ولا تعود عليهم بالمنفعة، بل تضرهم في المستقبل المنظور أو البعيد وهم في غفلة من أمرهم، ومسألة التبرير والتسويغ والتسويق واستخدام المفاهيم من مختلف الحقول المعرفيَّة لإدارة الصراعات أو أحتوائها لن تتوقف؛ لأنَّ توقفها يفقد الصراع أجزاءً مهمة من التعبئة والتبرير أو الدافع لرفع الجهوزيَّة وغير ذلك.