سركون بولص تحليلٌ سايكولوجيٌّ لشخصيته واغترابه

منصة 2023/11/05
...

 أ.د. قاسم حسين صالح *

مرت في 22 تشرين/ أكتوبر الفائت، ذكرى رحيل الشاعر السرياني سركون بولص في (2007). ومع أنه يعد من أبرز ايقونات الحداثة في الشعر العراقي والعربي أيضاً، فإن ذكراه مرت من دون أن يـُحتفى بها، حتى من الأوساط الثقافيَّة، بما يليق به شاعراً إنسانياً خالصاً ترك ست مجموعات شعريَّة بنكهة تميزه عن شعراء زمانه، بدءاً من مجموعته (الوصول الى مدينة أين)، مروراً بـ(حامل الفانوس في ليالي الذئاب)، وانتهاء بـ(العقرب في البستان)، فضلا عن كتاباته القصصيَّة وترجماته.
 ولأنني انشغلت منذ زمنٍ بدراسة سايكولوجيا الشعر والشاعر بهدف توثيق العلاقة (المعدومة عراقياً!) بين الذين يصفون المشاعر والانفعالات بأرق ما في اللغة من مفردات (الشعراء)، وبين الذين يكشفون عن أسرارها وكيف تتشابك العاطفة مع الحالة النفسيَّة والمزاج والشخصيَّة والخبرات (السايكولوجيين)، فإنني وجدت في شعر سركون ما قاله عنه ابن مدينته وعضو جماعته (الكركوكيَّة) الصديق فاضل العزاوي بأن «عمارته الشعريَّة ذات أعال وسفوح، وفي أعاليه قول للأعالي وفي سفوحه قول للسفوح). وإن التنقل بين الأعالي والسفوح يوحي بأن صاحبه مصابٌ بالاغتراب، فرحت اقرأ أشعاره؛ لأحلله وأحلل شخصيته سايكولوجياً.
الاغتراب.. ماذا يعني؟
قد تبدو مفردة (الاغتراب) عاديَّة حتى عند مثقفين، مع أنَّ هذه المفردة كتبَ عنها فلاسفة وعلماء نفس واجتماع، المئات من المؤلفات، إليكم موجزاً بهم وبها.
يعدُّ ماركس وهيغل أول من لفت الانتباه الى (الاغتراب) حين أوضحا أنَّ بداية تغريب الإنسان تنشأ من انفصاله عن الطبيعة من خلال العمل والإنتاج.
ومع تزايد قدرة الإنسان في السيطرة على الطبيعة فإنَّه يواجه نفسه كشخصٍ غريبٍ، حيث يكون محاطاً بأشياءٍ هي من نتاج عمله لكنَّها مع ذلك تتخطى حدود سيطرته وتكتسب في ذاتها قوة متزايدة.
ولقد ركَّزَ ماركس على اغتراب العامل في أربعة أبعاد:عن ناتج عمله، عن عمله، عن نفسه، وعن الآخرين، ووصف الاغتراب بأنَّه ظاهرة تاريخيَّة تتعلق بوجود الإنسان، وأنَّ مصدره هو الإنسان ذاته وليس التكنولوجيا، ورأى أنَّ الحل يكون في الاشتراكيَّة التي يتحرر فيها الإنسان من تبعيَّة المال والملكيَّة الفرديَّة.
وبعكسه، منح الفيلسوف الألماني فويرباخ الاغتراب معنى دينياً، ورأى أنَّه يتطلب ديناً إنسانياً يتعلقُ بالإنسان وليس بالآلهة، بينما حاولت نظريَّة ريزمان عزو سبب الاغتراب الى كون سلوك الإنسان أصبح يوجّه من قبل الآخرين، وأنَّ الانسان لم يعد يتلقى مؤشرات سلوكه من أعماق ذاته بل من استحسان واستهجان من يحيطون به.
ويعدُّ روسو أول من أعطى (للغربة) بعداً سياسياً بقوله: «حين يتولى بعض النواب «تمثيل» الشعب، فإنَّ هذا الشعب لا يمارس سيادته بنفسه، ويبدأ بالانعزال داخل وطنه، ويشعر بالغربة».
وأضاف بأنَّ «السيادة لا يمكن أنْ تُمارسَ بالإنابة، فهي إما أنْ تمارسَ بالذات وإما لا تمارس أصلاً.. وأنَّ الحضارة سلبت الفرد ذاته وجعلته عبدآً للمؤسسات الاجتماعيَّة التي أنشأها هو وأصبح تابعاً لها».
وتعدُّ نظريَّة سارتر أكثر نظريات الاغتراب شيوعاً في القرن العشرين، وفيها يرى أنَّ الاغتراب النفسي حالة طبيعيَّة لوجودنا في عالمٍ خالٍ من الغرض، وكذلك نظريَّة ماركوس الذي يعزو الاغتراب الى فشل الحضارة في إدراك الإمكانيَّة الخلاقة للطبيعة البشريَّة.
ويظهر الاغتراب بشكلٍ واضحٍ لدى ممثل (الوجوديَّة الجديدة).. كولن ولسن الذي رأى أنَّ الانتماء صفة تطبع نفسيات الكثير من الكتّاب والمفكرين والفنانين التي فصلها في كتابيه (اللامنتمي) و(ما بعد اللامنتمي) ثم كتابه (سقوط الحضارة)، مشيراً من خلال معالجته لنتاج الكثيرين من المبدعين أمثال:( ويلز، هنري باروس، كامو، سارتر، دوستويفسكي) الى حالة الغربة التي عاشوها بوقوفهم خارج المجتمع وضده.
وحديثاً أسهم عِلمُ الاجتماع في تطور مفهوم الاغتراب وتركزت جهود علمائه في تفسير الاغتراب في الحياة الحديثة للفرد المغترب الذي يشعر بالضيق والعجز ويرى أنَّ القيم السائدة لم يعد لها معنى لديه وإنَّه صارَ يشعرُ بأنَّه غريبٌ عن جماعته.
وعزا بعضهم الاغتراب في البلدان النامية الى التغيرات الاجتماعيَّة السريعة والمتلاحقة التي تؤدي الى التناقض بين القيم الاجتماعيَّة والفكريَّة التقليديَّة والمجتمع الجديد التي ينجمُ عنها تفككٌ في النسيج الاجتماعي وتباينٌ في أنماط السلوك الاجتماعي وتضادٌّ بين قيمٍ تقليديَّة ثابتة وقيمٍ جديدة متطورة، يحدث انقساماً في أنماط السلوك الاجتماعي للفرد يمكن تسميته بـ(الشيزوفرينيا الاجتماعيَّة).
وكان أكثر المنشغلين بالاغتراب هم علماء النفس.
فشيخهم (فرويد) يرى أنَّ الاغتراب ينشأ نتيجة الصراع بين (الأنا) والضوابط المدنيَّة، ويحدث نتيجة الانفصام بين قوى الشعور (الوعي) واللاشعور (اللاوعي)، وإنَّ اللاشعور هو القوة الأعظم والأكبر في شخصيَّة الإنسان، إذ يحتوي على الرغبات والدوافع المكبوتة التي تحرك سلوكه، ولا يستطيع إشباعها في عالمٍ تنغصه الحضارة.
وفي كتابه (المجتمع السوي) يرى فروم أنَّ مصدر اغتراب الإنسان هو (الهيكل الاقتصادي السياسي المعاصر)، وأنَّ ظاهرة الاغتراب هي في حقيقتها ناجمة عن الرأسماليَّة المستغلة للشخصيَّة الإنسانيَّة.
ويشخّص (الاغتراب عن الذات) بوصفه أهم حالات الاغتراب. ويحدد ثلاثة مجالات للاغتراب: (الاغتراب والتميّز عن الآخرين.. بأنْ يعي وجوده بوصفه كياناً منفصلاً عن الآخرين، والاغتراب عن المجتمع بشعوره أنَّه ما عاد منتمياً نفسياً الى المجتمع الذي يعيش فيه، والاغتراب عن الذات المتمثل في عدم مقدرة الإنسان على التواصل مع نفسه وشعوره بالانفصال عمَّا يرغب في أنْ يكون عليه).
ويضيف أنَّ «الإنسان أصبح يحسُّ بالاغتراب منذ فقد صلته بالطبيعة وانتظم في المؤسسات الاجتماعيَّة التي يعدّها وسائل لامتصاص حريَّة الإنسان).
وشخّص أسباب الاغتراب بهيمنة التكنولوجيا الحديثة على الإنسان وسيطرة السلطة وهيمنة القيم والاتجاهات والأفكار التسلطيَّة، فحيث تكون السلطة وعشق القوة يكون الاغتراب.

ستة أسباب للاغتراب
 نستنتج بأنَّ نظريات الاغتراب تتفقُ على أنَّ له سبباً ولكنها تختلفُ في تحديد ماهيَّة السبب، ونرى أنَّ الاغتراب هو حصيلة تفاعل عددٍ من الاسباب نوجز أهمها بالآتي:
1 - العجز: ويعني إحساس الفرد بأنَّه لا يستطيع السيطرة على مصيره، لأنَّه يتقرر بعوامل خارجيَّة أهمُّها أنظمة المؤسسات الاجتماعيَّة.
2 - فقدان الهدفيَّة: أو فقدان المعنى الذي يتمثل بالإحساس العام بفقدان الهدف في الحياة.
3 - فقدان المعايير: ويعني نقص الإسهام في العوامل الاجتماعيَّة المحددة للسلوك المشترك.
4 - التنافر الحضاري: ويعني الإحساس بالانسلاخ عن القيم الأساسيَّة للمجتمع.
5 - العزلة الاجتماعيَّة: وهي الإحساس بالوحدة والانسحاب من العلاقات الاجتماعيَّة أو الشعور بالنبذ.
6 - الاغتراب النفسي: ويعدُّ أصعب حالات الاغتراب تعريفاً ويمكن وصفه بأنَّه إدراكُ الفرد بأنَّه اصبح بعيداً عن الاتصال بذاته.
وتفيد الدراسات التي قاست الاغتراب بأنَّ المغترب يعاني من واحد أو أكثر من مكونات أو عناصر الاغتراب، كالإحساس بالعجز وفقدان القدرة على توجيه ما يقوم به من نشاط وفق تخطيطه، أو حين تكون علاقاته بالآخرين أو السلطة مصدر شقاء، فيشعر بالبؤس والقلق والإحباط وفقدان الولع والاهتمام بالأمور الحياتيَّة والشعور بعدم وجود معنى في
الحياة.
وقد يحسُّ المغترب بعدم جدوى الأخلاق فيسلك سلوكاً يخرج عن المبادئ الخلقيَّة في سبيل تحقيق أهدافه وغاياته.
ويؤدي إحساسه بالعزلة الى التقوقع على نفسه، وقد ينقلب الى شخصٍ ضد المجتمع.
وحين يصل حد الشعور بأنَّ ذاته أصبحت غريبة عليه، فإنَّه يحقدُ عليها، فينهيها بانتحارٍ بطيء بالإدمان على الكحول، أو بانتحار سريع بطلقة.

الاغتراب عند سركون بولص
تشكّل شخصيَّة سركون بولص أنموذجاً لاغتراب المثقف العراقي بشكلٍ خاصٍ، لأنَّ فيها تجسّدت أهم أنواعه.
فالاغتراب حسب سارتر «ناتجٌ عن ظروف الحياة المعاشة في عالمٍ يتسم باللامعنى والعبثيَّة»، وكان قد عاشه سركون.
والاغتراب حسب هيجل «انفصالٌ أو تنافرٌ بين الفرد والبِنْية الاجتماعيَّة»، وكان قد خبرها سركون.
وإذا كان الاغتراب يعني وعي الفرد بالصراع القائم بين ذاته والبيئة المحيطة به يتجسد في الشعور بعدم الانتماء والسخط والقلق والشعور بفقدان المعنى، فقد عاشها سركون أيضاً.
إنَّ التحليل السايكولوجي لشخصيَّة سركون يقدم لنا خمسة مؤشرات عن اغترابه:
* إنَّ الذات لديه هاربة، وإنه في بحثه عنها كمبحرٍ نحو العدم.
* الإحساس بأنه مشتت الهويَّة identity diffused.
* الصراع بين حسِّ الأقليَّة والحسِّ الإنساني المطلق.
* الشعور بالانتماء واللاانتماء في آنٍ معاً، وتحديداً في السنوات التي عاشها في أميركا.
* صدمة الخيبة التي أحدثها تجواله في مجتمعات العالم بأنَّه لا معنى لوجود الغنسان وقيمته حتى في أرقاها.
لقد صعب على سركون التوفيق بينه وبين المجتمع الذي يعيشُ فيه حتى لو كان من أرقاها.
فبعد حرب الخليج 1991 أدرجت السلطات الأميركيَّة العراقيين من حملة الجنسيَّة الأميركيَّة بمن فيهم الآشوريون الأميركان، على اللائحة السوداء كمشبوهين محتملين في التواطؤ مع العدو (العراق).
وكان سركون في حينها ترك بيروت الى سان فرانسيسكو حيث لا أقليات بالمعنى الثقافي ليحظى بالحريَّة المطلقة والرحابة والمناخ المفتوح لكل ما يريد.
فكانت صدمة الخيبة التي أحدثت لديه غربة المكان بعد أنْ خبر غربة الزمان، وشعر كمن هو منفي داخل نفسه، وظلت الخصومة بينه وذاته الى يوم مماته.
ولم يكن ترحال سركون وتنقله بين المدن للمتعة والترفيه عن النفس، بل كان حاجة قسريَّة، لأنَّ الذي يعيش الاغتراب تنشأ لديه حلولٌ قسريَّة للصراعات العصابيَّة كالابتعاد عن الآخرين انفعالياً، أو الحصول على محبتهم، أو العداء لهم، بينما كان الحل القسري لدى سركون هو السفر الدائم.
ولأنَّ سركون كان وسيماً، ولأنه كان شاعراً مبدعاً، وكاتب قصة ورواية، وضليعاً في الترجمة، وثقافة واسعة في الشعر العالمي، فقد تولد لديه الشعور بالنرجسيَّة التي تفضي بآليَّة نفسيَّة الى أنْ تجعل صاحبها ملتصقاً بأوهامه عن نفسه، وعن المجهول واللانهائي.
وسركون خبرَ الاضطهاد، لا سيما في صباه وبدايات شبابه التي عاشها في كركوك: (أيها الماضي.. أيها الماضي.. ماذا فعلت بحياتي)، ونقمته على ماضيه هذا مرتبطٌ بانتمائه الى أقليَّة وشعوره كما لو كان مواطناً من الدرجة الثانية في مجتمعٍ عشائري متزمت، بينما هو يحمل فكرة إنسانيَّة عن الناس وفكرة نرجسيَّة عن ذاته.
ولاغتراب سركون علاقة بالحضارة، فلأنَّ لديه حساسيَّة عالية، ولأنَّه يحملُ صورة مثاليَّة لما يجب أنْ تكون عليه حياة الإنسان، فإنَّه وجد أنَّ منغصات الحضارة والتغيرات السريعة والتناقضات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة قد سلبت الإنسان حريته وإنسانيته وحولته الى ما يشبه الآلة، في حالة تناقض الطبيعة الجوهريَّة للإنسان التي قاسها سركون على روحه الشفافة وعقله المبدع.
فالشعور بالاغتراب ليس شرطاً في الإبداع الشعري ما لم يمتلك الشاعر موهبة الإبداع، كتلك التي تميز بها سركون حتى في حياته التي انتهت بتراجيديا احتضاره في منفاه الألماني بشقة صديقه مؤيد الراوي من جماعة كركوك، التي عاشت عصرها الذهبي قبل أربعين سنة وتشتت مبدعوها في المنافي.

* مؤسس ورئيس الجمعيَّة النفسيَّة العراقيَّة