علي العقباني
ما هو الدور الفعلي للمثقف في الأزمات والأحداث الكبرى؟ وما الذي يمكن أن يفعله المثقفون؟ صحيح ألا أحد في دوائر القرار السياسي العربي يقيمُ وزناً وأهميَّة للثقافة والمثقفين، ولا يتمّ أخذ رأيهم سوى في الظهور الإعلامي المرتبط بتبرير وجهة النظر هذه أو تلك، لكن المثقف الحقيقي هو بوصلة الحدث والأقدر على التعبير عنه، وقراءته والغوص في تجلياته وأبعاده وعمقه المجتمعي.
يستشهدُ المثقفون الفلسطينيون والعرب للدلالة على المعرفة بالثقافة الفلسطينيَّة بالشهيد غسان كنفاني الذي تقارب أعماله الروائيَّة والقصصيَّة - رغم عمر كاتبها القصير وزمن صدورها البعيد نسبياً- إذ امتاز بقراءته العميقة للواقع الفلسطيني وبطرحه لأسئلة وجوديَّة ومعرفيَّة وثقافيَّة كبرى في القضيَّة الفلسطينيَّة.
ولعلَّ صرخته «لماذا لم يقرعوا جدران الخزان» هي الأبرز، تليها تفاصيل رواية «عائد إلى حيفا» بينما يعدُّ الحوار الخطير بين الأب الفلسطيني وابنه الذي ربته عائلة يهوديَّة حين وجدته في البيت وهو الآن جندي في جيش الدفاع الإسرائيلي هو الحوار الوجودي الأبرز والأهم، وكذلك الأسئلة التي تطرحها رواية «ما تبقى لكم» وقصص وروايات أخرى لكنفاني.
ولكنْ، لماذا أذكر ذلك، حقيقة الأمر للدلالة أو للاقتراب من الحالة الثقافة التي تقارب «طوفان الأقصى» والاشتغال الثقافي المبسط عليها من قبيل الجذر والمعنى اللغوي لكلمة طوفان، هل هي من طوفان نوح، أم من طوف الروح، أم من طافَ يطوفُ طوفاً فهو طوفان، والجذر الديني للكلمة، مقاربات تحيلنا إلى خلافات ذات طبيعة لغويَّة تبعد النقاش عن معناه الإنساني أو الوجودي والسياسي وتقاربه من الديني على حساب المعرفي والثقافي بعيداً عن هول اللحظة، والأسئلة الملحة وجودياً وإنسانياً.
ومنذ اللحظات الأولى للحدث الكبير «طوفان الأقصى» تتكثف التحليلات والتأويلات والاستنتاجات والقراءات حول الذي جرى وعن المراحل المقبلة، وهل ستنتصر حماس أم إسرائيل؟، وحتى إعلان وقف إطلاق النار كم سيكون عددُ الشهداء الفلسطينيين من النساء والأطفال، وكم سيكون عدد البيوت المسواة بالأرض كأمرٍ واقعٍ، أمام جبروت القوة الإسرائيليَّة ووقوف الدول الكبرى إلى جانبها، وبين هذا وذاك ستعمُّ فوضى المواقف العربيَّة والعالميَّة حيال ما يحدث وما سيحدث. وهكذا تصعد إلى السطح بعض الأسئلة، منها: هل المطلوب العودة إلى الوضع الذي كان قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، أم دخول إسرائيل إلى عمق غزة وانتصارها على «حماس» بشكلٍ كامل؟
أم خروجها بسرعة وانتصار «حماس» عليها بشكلٍ حاسم؟
ولكنَّ «حماس» هي القوة العسكريَّة الأساسيَّة داخل القطاع، وباتت العنوان العالمي لجبهة معاداة الغرب..
أسئلة كثيرة احتمالات ربما تشير في معظمها إلى العمل من جميع الأطراف إلى إزالة حماس وقادتها والمقربين منها من الوجود، والذهاب نحو حلٍ سياسيٍ طويل الأمد، قد يُفضي إلى حل الدولتين والخلاص من المقاومة هناك، والانتقال إلى مرحلة جديدة في الصراع الأزلي. تجاه كل ذلك.. أين هو؟، وماذا يفعل المثقف العربي المؤدلج أو العضوي أو الحيادي أو المثقف المسالم، أو مثقف المنابر والشعارات والقصائد الصادحة، أو مثقف الوقفات الاحتجاجيَّة الذي يرفع لافتة ويقف دقيقة صمت، ومن ثم الذهاب إلى أقرب مقهى لتناول «النرجيلة» والشاي وهو يضع رجلاً فوق رجل يناقش الأحداث ومآلاتها ويصدحُ بروح المقاومة وإعلان مساندة أهلنا في غزة قبل أنْ يُكملَ سهرته في مكانٍ ما.
وبعيداً عن محللي القنوات الفضائيَّة، وخصوصاً شاشات المقاومة، فإنَّ الشارع العربي بدا هزيلاً في ردة فعله متوازناً مع ردة فعل حكوماته العاجزة أو غير الراغبة في فعل شيء عملي حيال ما يحدث في فلسطين، وربما يعول الفلسطينيون على التظاهرات في الغرب وأميركا، والتي يقودها فلسطينيون أو مواطنو تلك البلدان ضدَّ موقف حكوماتهم التي ربما ترضخُ لمطاليبهم وتضغط على إسرائيل للتخفيف من أعداد قتلى النساء والأطفال وإدخال المساعدات الإنسانيَّة وعدم ضرب المستشفيات والمدارس وقوافل النزوح.
العجز والإحباط وفقدان الأمان والتفكك وضعف الانتماء الوطني والمكاني والهويَّة، والذي تحدث عنه المثقفون العرب من أنَّ إسرائيل تعاني منه، وربما يخلخل كيانها هو تماماً ما يخافون من الإفصاح عنه حيال بلدانهم الفاقدة لكل ذلك وأكثر، من الكرامة والحريَّة ولقمة العيش والحياة في أبسط مقوماتها.
الثقافة والمثقفون اليوم في عزلةٍ شديدةٍ وخوفٍ أشد وتخاذلٍ أكبر، وسوء حالٍ أكثر من أي وقتٍ مضى، ففي الوقت الذي علينا أنْ نؤكد فيه على دور الثقافة في تغيير وجه العالم اليوم، ودور المثقفين في ذلك، نجدهم عاجزين عن تقديم إجابات حيال ما يحدث، وما الدور الذي عليهم فعله، هل ستقوم القصائد بردة الفعل، أم الأفلام السينمائيَّة، أم الروايات والقصص، أم سيكتفي المثقفون والكتاب بالتأثر والبكاء مع كيل التهم والتعبير الخجول عن الحدث.مع كيل التهم والتعبير الخجول عن الحدث.