التسامح.. بداية علاج الشر

منصة 2023/11/09
...

 مؤيد أعاجيبي


التسامح هو مبدأ إنساني عظيم يحمل قيماً نبيلة وثمينة في طياته. إنه يعد زينة الفضائل والقيم الأخرى، حيث يُنقي القلب ويطهر الروح، ويرفع روح الإنسان ويقرب الأفراد من بعضهم البعض. يُسهم في تعزيز الترابط الروحي والمعنوي بين الأفراد، ويعزز الشعور بالرحمة والمودة والتعاطف بين الناس.

ويأتي هذا التسامح كاستجابة للفطرة الطيبة التي خُلِقنا عليها، والتي تحثنا على اتباع الخلق الحسن والقيام بالأعمال الصالحة، ومنها التسامح. فالقيم الإنسانية التي يرتكز عليها مفهوم التسامح تمثّل الجذور الأخلاقية للإنسانية.
يشكل التسامح الأساس الذي يسهم في ولادة المجتمع الإنساني، حيث تتقاطع فيه إرادات الأفراد من أجل تحقيق ذواتهم ككيانات مستقلة، وبالتالي يستحق الاعتراف الكامل، بما في ذلك منحهم الحرية واحترام كرامتهم، وتمكينهم من بناء شخصيات تتسم بإرادتهم الخاصة، لذا، يمكن اعتبار التسامح أساساً أخلاقياً يساهم في بناء مجتمع يمكن للجميع العيش فيه بسلام، كون البشر مخلوقاتٍ غير معصومة عن الخطأ ومحدودي القدرات كما يقول سقراط، ولكنهم يتميزون بحبهم للحقيقة وسعيهم الدائم لاكتشافها. من هذا المنطلق، يعتقد سقراط أن التسامح هو وسيلة تساعد البشر على تحقيق هذا الهدف عن طريق ممارسة التسامح مع الآخرين، الذين قد يمتلكون آراءً وأفكاراً مختلفة عن والحياة، لذا يمكن للأفراد الدخول في نقاشات وحوارات تعزز من تفاعلهم مع وجهات نظر مختلفة. هذا يساهم في توسيع آفاق التفكير ويساعد في البحث المستمر عن الحقيقة، وهذا يعكس القيمة الكبيرة التي يعطيها لقوة العقل والقدرة على التعلّم من
الآخريّن.
فالتسامح هو أن تكون مسؤولاً إزاء الغير بإعطائه حريته الفكرية والعقدية، ويعيش وفق نمطيته الخاصة في الحياة، وأن تكون حريصا على ضمان سلامته البدنية والروحية من التعرض للامتهان والمس بحقوق الغيرية، فتلك هي المسؤولية عينها. إنها مسؤولية ضمان إشراك الغير المخالف في إنتاج سبل الحياة بغية إغناء التجربة الإنسانية، وفتح أفقها الغائي الذي يتوخى بناء مجتمع كوني متسامح، يوجه الفرد في التعامل مع الآخرين بطريقة صحيحة ومناسبة لمختلف الوضعيات. أو كما أشار أرسطو إلى أن الفضائل الأخلاقية بجميع أشكالها، بما في ذلك التسامح، تمثل توازناً بين نقيضين. في حالة التسامح، يكون هذا التوازن بين الانصياع المفرط والتطرف في القضايا وبين العجز عن التعصب للآراء والمبادئ. يعني ذلك أن التسامح يمكن أن يساعد الفرد في تحقيق توازن أخلاقي بين القبول والاحترام لآراء الآخرين وبين الحفاظ على مبادئه وقيمه
الخاصة.
لذا غياب التسامح هو الجذر الرئيسي للإكراه والقمع ضد حقوق الأفراد في التعايش المتنوع. يمكن القول أيضاً إنه هو الأساس الذي ينبعث منه ثقافة الكراهية والحقد وازدراء الآخر. هذه الثقافة الضارة تشجع على العنف وتجعل من الآخر تهديداً حقيقياً للثقافة والهوية. لا تقتصر مشكلتها على مجرد التهديد بل تتجاوزها إلى ممارسات الاضطهاد، سواء كان ذلك انتمائياً دينياً أو ثقافياً، وتعارض أيضاً الانفتاح على الآخر. هذا يجعل الكثيرون يرفضون التسامح في العديد من القضايا والمشكلات التي يواجهونها والأذى الذي يتعرضون له من قبل
آخرين في المجتمع.
هذا الرفض يُعقد الأمور ويزيد من تعقيد المشكلات في المجتمع. قد يؤدي إلى تصاعد الكراهية والضغينة بين الأفراد وتعزيز روح العداوة بينهم. يمكن أن يؤدي أيضاً إلى تفكك الروابط المجتمعية بين الأفراد وبين مكونات المجتمع. كون الشقاق والاختلافات بين البشر تمثل أحد أكبر المشكلات التي تؤثر سلباً على الجنس البشري، ولكن التسامح يُعتبر العلاج الأمثل لهذا الشر. فهو نقطة البداية الضرورية للتفاعل الإيجابي بين البشر، وهو ما يسهم في تحقيق السكينة والسلام النفسي، عندما تكون هناك أذهان متفتحة، تمارس التسامح بشكل طبيعي، وفي هذه الحالة يصبح التحدي في تطوير مستوى من التعاطف والمحبة، لذا علينا أن نتذكر دائماً الفيلسوف ماركوس أوريليوس عندما يقول (أفضل وسيلة للناس هو أن نتجنب مبادلة الشر بالشر فنصبح مثل مرتكب الخطأ). لذلك كن متسامحاً.