أصدقاء {التعليقات واللايكات} بلا جهود

منصة 2023/11/12
...

  أحمد الزبيدي


ما عاد السفر وحده ميزان الأخلاق؛ لقد تغيرت الوسائل: المادية والتقنية المعيارية، ومعها تغيرت القيم الأخلاقية، واختصرت منصات التواصل الاجتماعي على الإنسان وسائل الكشف عن أخيه الرفيق، من دون حاجة إلى (الطريق)! ومن أهم وسائل التواصل في البيئة العراقية  (الفيسبوك) وكأنه جهاز (السونار) الكاشف عن أخلاق صاحبه، وبه تحققت -أكثر- مقولة بوفون (الأسلوب هو الرجل). ففي هذا العالم المجاني يتمكن الفرد من أن يتحول إلى طرزان من دون غابة و(مثقف) ينكر وجود الله ويسخر من الديانات السماوية، ليس عن طريق كثرة قراءاته الفلسفية والمعرفية؛ وإنما لكثرة أصدقائه المشتركين و"لايكاته" وتفاعله معهم. 

في هذا العالم تزكمك -أحيانا- رائحة المطبخ من كثرة ما يتحدث صاحبه عن أكلاته 

المفضلة، وتستطيع معرفة قياسات بيته من كثرة الصور الهندسية عن غرف البيت من الداخل والخارج. وهنا تجد (المثقف) الذي يعيش على (عثرات) الأصدقاء، فيقتنص شاردات اللسان ووارداته كي يتباهى بـ (معصوميته) عن 

الخطأ. 

هنا تجد الذات المتضخمة بأسمن حالاتها. وشعراء يوزعون الألقاب (الكبيرة) بينهم حسب مزاجهم، فهذا يستحق جائزة نوبل، وذاك مفضل لديه على رامبو، وعدو عدوي شاعر كبير، وصديق عدوي تافه -شعريا- ويعتاش على الصور الأدبية المستهلكة. هذه الرواية تفوق رواية "مئة عام من العزلة"؛ حتى لو لم يقرأها، المهم أنها تفوقها.. ومن الطرف الآخر تجد ذلك المثقف الذي يتخذ التقنية العلمية وسيلة لنشر المعرفة، ويقدم لأصدقائه (الافتراضيين) مقالات متنوعة ومعلومات قيمة ونصائح نافعة ولا يعرف سوى الخير والنصح والإرشاد، وهناك في الصفحة المخفية من "الفيسبوك" مَنْ يتوارى خلف اسم مستعار ويقف على تلًه الذي هو أسلم له من المتطرفين. فـ "الفيسبوك" استعجل نبوءة العلمانية بتحول العالم إلى قرية، بل هو أصغر منها وصار (صفحة) واحدة ومن دون قرية! 

 يقول علماء اللغة بأن الدال اللغوي يتطور؛ فقد ترقى دلالته أو تنحط، ومنها ما يختصّ عامّه أو يعمّ خاصّه، ويؤكدون أن (الاستعمال الخاطئ) من الوسائل المعترف بها -علميا- في الإجازة بالتحول الدلالي وتطوره.. دال (عيش)، مثلًا، قد خصصت دلالته عند المصريين، وصار يدل عندهم على (الخبز)، ودال (نكهة) الذي يعني رائحة الفم -في المعجم- صار يدل على كل رائحة طيبة. فهل يمكن القول بأن دال (الصديق) قد تغيرت دلالته؟ وهل التغير انحطاط أم رُقي. خاصّ أم عامّ؟ لا أدري أو لا يحق لي أن أدلي، فهو أمر يخصّ اللغويين من جهة، وتباين وجهات النظر من جهة أخرى. ولكن ما يضر ّ لو أفصحت عن رأيي؟ 

أعتقد أن الدال قد تجاوز المستويات اللغوية المنفردة، فهو من جانب قد انحطّت دلالته حين أصبح الصديق صديقًا مسبقا بمجرد أن توافق على طلبه أو تدعوه للموافقة، فـ "الفيس" من يختار لك الصديق، وهو من يقترح عليك ويغريك. لا قيمة للمعاير الأخلاقية، والاجتماعية والثقافية، فالعالم الافتراضي التكنولوجي يهيئ لك الصديق كما تهيئ لك آلة الحاسبة جدول الضرب والحساب بضربة زر واحدة.. وصلة الرحم بين الأصدقاء تتحدد بصلة التعليقات واللايكات. أو أعتقد أن الدال تطوّرت دلالته من الخاص إلى العام؟ وصار كل من هو ضمن قائمة صفحتك الشخصية صديقًا! وقد تفضّل عليك "مارك" ببعض الصلاحيات التي تنظم حياتك الافتراضية الجديدة الوريثة لحياتك الواقعية!

يريد أن يحول حياتك إلى أرقام وتكنولوجية مرادفة ومجاورة لكل القيم الاجتماعية والأخلاقية: تلغي صداقات وتكتسب صداقات وتحاور وتخاصم.. وهذا العالم الافتراضي أصاب الكثير، ممن ليست لديهم مناعة (أخلاقية) كافية، فأصبحوا أشخاصا موهومين ومثقفين خياليين وتائهين، ومن كثرة كذبهم 

صاروا يصدقون ما يكذبون حتى ضاع عليهم الصدق من الكذب، والحقيقة الواقعة من الافتراض الزائف.. صفات وهمية بقنابل لغوية تطلق من قلب صفحة المثقف، ولكن سرعان ما تتبخر أمام أقرب تجربة واقعية.. وأعتقد -أيضَا- أنه لا يحق لي القول، بأن الدال قد نال رقياً دلالياً بعد أن ركنت التكنولوجيا أدوات الميزان الأخلاقية والقيمية الواقعية للكشف عن وزن الصديق في (الطريق) وأبدلتها بميزان يقيس بالأرقام التي كثيراً ما تخطئ في المقياس، كما يخطئ جهاز مقياس الضغط الإلكتروني الرخيص الثمن.