ميادة سفر
تحكي الكاتبة التشيلية الأصل إيزابيل الليندي المولودة عام 1942 في كتابها "نساء روحي" الصادر عن دار الآداب اللبنانية وبترجمة مارك جمال، تحكي عن ذاتها وطفولتها وشبابها والآن شيخوختها، عن النسوية التي انتمت إليها وهي لا تزال في روضة الأطفال قبل أن يعرف ذلك المفهوم في عائلتها، وعن نساء كثيرات استثنائيات تركن أثراً في حياتها ونفسها وأفكارها وفي مقدمتهم أمها بانتيشتا، تلك المرأة التي يعود إليها أصول تمرد الكاتبة، الزوجة التي هجرها زوجها مع طفلين بين ذراعيها، حين تضطر إلى اللجوء إلى بيت أبويها في تشيلي هناك حيث ستمضي الكاتبة طفولتها وتبدأ مسيرتها النسوية وتمردها وأفكارها التي كثيراً ما لقيت استهجاناً من المحيط الذي لم يعتد أن يسمع صوتاً للمرأة، تلك الطفولة التعيسة التي عاشتها ستكون حافزاً ومحرضاً على الغضب نحو الذكورية وعلى الكتابة لاحقاً، تقول وهي تشعر بالامتنان لتلك الطفولة: "لا أدري كيف يتدبر حالهم أولئك الروائيون الذين عاشوا طفولة هانئة في بيت طبيعي".
يبدو الكتاب حكاية سيرية للكاتبة إلا أنه لا يقتصر على حياتها وسيرتها الذاتية وتجاربها وعلاقاتها، بل يشمل قصص نساء أخريات سيتركن أثراً عليها وعلى نساء أخريات احتجن للمساعدة، وإن كانت في "نساء روحي" تأخذنا أكثر فأكثر في رحلتها الشخصية، عن أمها وابنتها باولا التي رحلت شابة وكان لرحيلها وقعٌ لن يمحى في نفس الكاتبة وعنها ستترك كتاباً حمل اسمها تحكي فيه ما يشبه السيرة وتجربة فقدان ابنتها ومشاعرها كأم ترى احتضار طفلتها.
لم تكن إيزابيل الليندي امرأة عادية فهي "لم تتقبل يوماً الدور الأنثوي المحدود الذي عهدت به الأسرة والمجتمع والثقافة والديانة"، لذلك لطالما عرفت عن نفسها على أنها امرأة بطريقتها وشروطها، كتبت وزميلاتها في تلك المجلة النسوية التي قمن بتأسيسها والسكاكين بين أسنانهن، كانت راضية عن نفسها وعن كل سنوات عمرها، "قليلات هن النساء اللاتي قد يشعرن بالرضى الذي أشعر به عن كوني أنثى، إذ يحتملن ظلماً بلا نهاية، وكأنها لعنة إلهية".
دائماً ما تحضر المرأة وتتربع على عرش روايات إيزابيل الليندي، بما تحمله من غضب تجاه النظام الأبوي الذي ما زال "نظام القمع السائد في السياسة والاقتصاد والثقافة والدين" وما زال يمارس مختلف أشكال الاقصاء والعنصرية والعدوان تجاه المرأة في كثير من البلدان، لذلك نراها تركز بين دفتي الكتاب على النسوية ومفهومها بالنسبة لها ومما تتألف، تعتقد الليندي أنّ النسوية " لا تكمن بين أفخاذنا، وإنما في آذاننا، إنه موقف فلسفي وتمرد على سلطة الرجل"، وتحزن لأن "عدداً كبيراً من النساء في صفوف القوى المعارضة، نساء خائفات من التغيير، عاجزات عن تخيّل مستقبل مختلف".
تحكي إيزابيل الليندي عن العمر "الذي يجري والمرء منشغل في وضع مخططات أخرى"، فهي لا ترى "عيباً في الشيخوخة"، وتعتقد أن العمر لا يجب أن يشكل عائقاً أمام المرء يمنعه من البقاء مفعماً بالطاقة، مبدعاً، أو يحول دون مشاركته في العالم.
كتبت "نساء روحي" أثناء أزمة كورونا التي أقعدت الجميع في البيوت، لذلك ستختم الكاتبة بسؤال: أيّ عالم نريد؟ بعد كل ما جرى لنا مع انتشار فيروس كورونا، وتجيب وأجزم أنها تحكي بلسان الكثيرات من النساء والكثير من الرجال إننا "نريد عالماً مطعمّاً بالجمال، نريد حضارة خالية من التمييز القائم على الجنس أو العرق أو الطبقة أو العمر أو أي تصنيف آخر قد يفصل بيننا"، فهل تتحقق أمنية إيزابيل الليندي التي هي أمنيتنا؟ هل نستيقظ يوماً على عالم خالٍ من الحروب، عالم يسود فيه السلام والأخلاق؟
يبدو أنّ أزمة وباء كورونا لم تعلم العالم ضرورة الاحتفاء بالإنسان والسعادة، فلا الحروب توقفت ولا السلام انتشر، ولا النساء بتن في مأمن من القتل على أسس الذكورية الواهية، ولا الأرض تعيش اليوم بأمان من تعدي الإنسان عليها، ولا تحققت رغبة الكاتبة بأن "نحتفل بكل لقاء ونعتني بشؤون القلب في مودة"، هؤلاء هن نساء إيزابيل الليندي الكاتبة المتمردة التي بلغت مبيعات كتبها أكثر من سبعين مليون نسخة حول العالم.