آباء الصين يوظّفون أبناءهم منزليِّاً!

بانوراما 2023/12/28
...

 ستيفاني يانغ وديفيد شين

 ترجمة: بهاء سلمان

كانت "تيان ينان" تتصفح وسائل التواصل الاجتماعيّ أواخر الخريف الماضي عندما عثرت على يوميات لمقاطع فيديو عن نوع جديد مثير للاهتمام من الوظائف. عبر هذا المنشور، بدأت امرأة شابة يومها مرتدية رداء حمام وردي اللون، تتناول الطعام على مهل من وعاء الوجبات السريعة الذي يحتوي على وجبة بتوابل حارة. كانت تمضي فترة ما بعد الظهر في المطالعة، وعندما يحين وقت العشاء تتناول وجبة خفيفة من فاكهة التنين الحمراء وبذور عباد الشمس المقشرة أثناء مشاهدة التلفزيون؛ وكانت تطلق على نفسها اسم "ابنة متفرّغة".وجدت تيان نفسها تحسد مثل هذه الحياة البسيطة. فقد كانت طالبة جامعية تتخصص بإدارة السياحة، وتتدرّب في أحد الفنادق وسط مدينة غوانغزو الكائنة جنوبي الصين. كان العمل روتينيا، والأجور متدنية، ولم تكن تحب الحياة بمفردها أو بعيدا عن اسرتها.
فأرسلت الفيديو إلى والدتها، وسألتها عما إذا كان بإمكانها أيضا أن تصبح موظفة بعنوان (ابنة) بدوام كامل بعد التخرّج؛ فوافقت والدتها على طلبها. تقول الشابة البالغة من العمر 23 سنة: "عندها قررت بعد انتهاء فترة تدريبي أنني لن أعمل مرة أخرى، على الأقل ليس بدوام 

كامل."

ومع تدهور الاقتصاد الصيني ونضوب فرص العمل، انطلقت فكرة أن تصبح ابنا أو ابنة مهنيا، والتي بدأت تنتشر في منتدى صيني شهير على الإنترنت شهر كانون الأول الماضي. يقول "يونشيانغ يان"، أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة كاليفورنيا: "على نحو متزايد، عندما ينظر الشباب حولهم، لا يوجد أي شخص تقريبا يمكنهم الاعتماد عليه باستثناء والديهم"، منوها إلى أنّ الروابط بين الآباء والأبناء تتعزز مع تقلص حجم الأسرة، ويضيف: "الأمر أكثر تعقيدا من الانكماش الاقتصادي، لكن الانكماش الاقتصادي قطعا هو السبب."

وليس من الواضح عدد الأشخاص الذين يشاركون في ظاهرة "الأبناء بدوام كامل"، على الرغم من أنها أصبحت موضوعا سائدا ومثيرا للجدل عبر الإنترنت، حيث تلقت علامات التصنيف المتعلقة أكثر من 40 مليون مشاهدة على تطبيق شياهانغشو الصيني الشبيه بتطبيق انستغرام. وأصبح هذا الاتجاه موضع ترحيب ومثيرا للقلق في الوقت نفسه بالنسبة لثاني أكبر اقتصاد على مستوى العالم، فمع ارتفاع معدلات البطالة بين البالغين الأصغر سنا إلى مستويات غير مسبوقة، ركّزت بعض وسائل الإعلام الصينية على جانب "العمل" في هذا الترتيب، مع توقع أن ينفق الشباب الوقت والجهد لأجل رعاية والديهم بدلا من التسكع ببساطة قرب المنزل.

لكن استمرار هذه الممارسة يمكن أن يكون له تداعيات أوسع على الاقتصاد الصيني، الذي يتعرّض تعافيه بعد عمليات الإغلاق الصارمة بسبب وباء كوفيد 19 بالفعل لضغوط بسبب ضعف الإنفاق الاستهلاكي وارتفاع مستويات الديون وتفاقم أزمة العقارات.


تأثيرات متوقعة

وتقول "أليسيا جارسيا هيريرو"، كبيرة الاقتصاديين لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ في بنك الاستثمار الفرنسي ناتيكسيس: "إذا أصبحت هذه الحالة مشكلة أسرية، فستكون لها تكلفة مهمة للغاية من حيث انخفاض الإنتاجية، فقد ينتهي الأمر بإحداث تأثير دائم، لأن هؤلاء الشباب الذين يعملون في المنزل قد لا يجدون أية وظيفة أخرى."

تيان، التي عادت للعيش مع عائلتها في مدينة تشوهاي الساحلية خلال الشهور الأولى من هذا العام، تقضي الآن وقتها مع مدوّنات السفر ورعاية أختها البالغة من العمر 15 عاما. وعلى الرغم من دعم والدتها لها، فإن والدها، الذي يتبنى آراء أكثر تقليدية، يجد صعوبة في قبول وضعها تحت وصف "إبنة بدوام كامل"، حيث تقول تيان: "أبي يعتقد أنني يجب أن أكون مثله على نحو أكثر تقليدية، وأتّبع مسار حياة الآباء الصينيين الآخرين، من الحصول على وظيفة جيّدة بعد التخرج، والذهاب إلى العمل، وإيجاد الاصدقاء الجيدين، والزواج، وهذا النمط من الحياة."

بيد أنها تتحدث عن تسليم والدها بحقيقة أن مسألة إيجاد وظيفة مستقرّة بأجر جيّد صارت أكثر صعوبة بالنسبة للخريجين الجدد في الصين. وكان أصدقاؤها قد قدموا طلبات للحصول على فرص عمل محلية، لكن تيان ووالديها رفضوا فكرة عملها مقابل 400 إلى 550 دولارا شهريا. "من المستحيل قبول أنني درست لفترة طويلة، وتخرّجت من الجامعة، وأنني سأبدأ العمل بدوام كامل، فقط للحصول على هذا المبلغ القليل من المال،" تقول تيان.

قبل بضع سنوات، كان العديد من العمال الصينيين لا يترددون في مهمتهم المتمثلة بتطوير حياتهم المهنية وارتقاء السلّم الاجتماعي والاقتصادي. وكانت ساعات العمل القاسية عند أكبر شركات التقنيات في البلاد معروفة باسم "996"، وهو اختصار من الساعة 9 صباحا إلى 9 مساء، ستة أيام في الأسبوع.


تدهور الاقتصاد

لكن الجائحة، التي تزامنت مع فرض الحكومة لإجراءات صارمة على بعض المصالح التجارية، مثل التكنولوجيا والتعليم والعقارات، أدت إلى تباطؤ التوظيف لدى بعض أكبر شركات توظيف الخريجين الجدد في البلاد. وشهد معدل البطالة بين الشباب الصيني للفئة العمرية من 16 إلى 24 عاما وخصوصا المناطق الحضرية ارتفاعا قياسيا بلغ 21 بالمئة في حزيران الماضي، قبل أن تتوقف الحكومة عن نشر الأرقام الشهرية.

ونتيجة لذلك، تجد الأجيال الشابة صعوبة أكبر في تبرير أيام العمل الطويلة والتضحيات الشخصية من أجل الوعد المتضائل بحياة أفضل. ويتخلّى البعض عن وظائفهم المكتبية لتجربة أنماط حياة مختلفة، مع إعطاء الأولوية لجودة الحياة على حساب النجاح التقليدي. ويتعامل آخرون مع التباطؤ الاقتصادي بطرق أخرى، مثل شراء تذاكر اليانصيب أو زيارة المعابد للصلاة من أجل التوظيف.

أصبح "يي فينغ"، وهو من سكان بكين، "ابنا بدوام كامل" قبل ثلاثة أشهر بعد أن ترك وظيفة العلاقات العامة لدى إحدى الشركات المالية. كان الشاب البالغ من العمر 27 عاما قد بدأ بالفعل العمل لساعات أقل، مع تضرر المصلحة التجارية وتقلص اهتمامه، بسبب الملل من الالتزامات الاجتماعية المرهقة، وأصيب بآلام في الرقبة وإلتهابات المعدة بسبب عبء العمل الثقيل.

الآن، لا يستطيع أن يتصوّر العودة إلى وظيفة مكتبية على الإطلاق. وأحيانا يساعد والدته في التواصل مع التجار لتلبية طلبات قاعة الطعام التي تديرها، لكنه قال إنه يريد استغلال معظم وقته في الراحة وتطوير الذات والسفر. وعلى كل حال، فهو يجرّب حظه مع مختلف ميادين الأعمال، معلقا: "منذ البداية، كنت أجني المال لكسب المال. أما الآن فإنا أسعى لحصول على المال كأداة لتحقيق أحلامي. فالمال مهم، لكنه ليس كل حياتي."


انتقادات لاذعة

وقد شجب النقاد بشدّة عبر الإنترنت عبارة "الأبناء المتفرّغين" باعتبارها تعبيرا ملطفا للاستغناء عن الوالدين، وهو ما كان يعرف تقليديا بإسم آخر، ويترجم حرفيا على إنه "قضم كبار السن". "ما يطلق عليه "الأبناء بدوام كامل" هو مجرد تحويل واجباتك العادية إلى وظيفة. فإذا جاء اليوم الذي لا يستطيع فيه والداك ضمان راتبك، فهل ستظل على استعداد لرعايتهما؟" هكذا علّق أحد مستخدمي موقع شياهانغشو. وكتب آخر: "هذا الحال هو بمثابة ذريعة للأبناء الذين لا يحسنون عمل شيء. فقط من خلال التكيّف مع المجتمع يمكنك أن تصبح شخصا ذا قيمة حقيقية." ويرى آخرون أن هذا الاتجاه امتداد لمصطلح Tangping، أو "الاستلقاء"، الذي يستخدم لوصف الشباب المحبطين الذين يختارون التخلي عن وظائف ثقيلة الوطأة وعدم القيام بأي شيء. وبينما تحاول حكومته عكس اتجاه التباطؤ الاقتصادي، شجع الرئيس "شي جينبينغ" شباب الصين على "تجرّع المرارة" وتبني العمل الجاد، وخاصة في المناطق الريفية قيد التطوير. ولكن جزءا من السبب وراء ارتفاع معدلات البطالة هذا العام هو رفض الخريجين الجدد للفرص التي يعتبرونها مرهقة للغاية أو منخفضة الأجر، في انتظار شيء أفضل.

يقول "فانغ شو"، المحاضر المستمر من جامعة كاليفورنيا: "إذا فقد الشباب وآباؤهم الأمل بالفعل، فمن المرجح أن يعيدوا تدريبهم أو يكتشفوا شيئا ما على المدى الطويل. وبسبب عقود من الاستثمار العاطفي والمالي في تعليم أبنائهم ومستقبلهم، يرفض الآباء الاستسلام أيضا."

تلقت "شي يي"، 24 عاما، عدة عروض عمل بعد حصولها على شهادة تتعلق بالشؤون المالية سنة 2020، لكنها قررت متابعة درجة الماجستير في التسويق، وهو مجال وجدته أكثر جاذبية. ومنذ تخرّجها بوقت سابق من هذا العام، لم تقم بإجراء المقابلات سوى بعدد ضئيل مع عرض واحد براتب أقل بكثير مما توقعته.


سوق عمل ضعيف

تقول شي، التي تعيش مع والديها في نانتونغ، وهي مدينة تقع في مقاطعة جيانغسو شرق الصين، إنها ستجرّب حظها مرة أخرى خلال فترة التوظيف الخريفية الأكثر حركة، ومن المرجح أن توسع نطاق بحثها ليشمل مصالح تجارية أخرى. تقول شي، التي تعتبر نفسها "إبنة بدوام كامل" مع ترقبها لفرصة عمل: ""قبل التخرّج، لم أفكر كثيرا في الحصول على المال من والديّ، فتلقي المال بعد التخرج أمر محرج بعض الشيء."

معظم المدوّنين عبر الإنترنت الذين يوثقون أيامهم بوصفهم "أبناء بدوام كامل" هم مثل الشابة "شي"، الذين يعيشون في المنزل لأنهم لا يستطيعون حاليا العثور على نوع الوظيفة التي يريدونها. ومع ذلك، فقد رأى بعض العمال الأكبر سنا جاذبية قضاء المزيد من الوقت مع العائلة أيضا. تعتبر "تشانغ جياي"، البالغة من العمر 31 عاما والتي تعيش مع والديها في مدينة هانغزو، أن دورها "كابنة بدوام كامل" هو دور عملي أكثر.

قررت هذا العام قبول عرض والديها بالحصول على راتب شهري قدره 1100 دولار، وهو ما سيدفعونه لمدبرة منزل أو مربية أطفال، لتنهي عملها المتعثّر في مجال الأقمشة والبقاء في المنزل بدلا من ذلك لرعاية والديها وطفليها، علاوة على الأعمال المنزلية. الآن، تبدأ الأسرة يومها بتمارين الصباح، ويشترون المواد اللازمة من محلات البقالة ويعدون الغداء ويقضون فترة ما بعد الظهر في الذهاب إلى المطاعم والمعالم السياحية العصرية حول مدينة هانغزو. وتشير تشانغ إلى إن وظيفتها هي إسعاد والديها، اللذين أصبحا يعتمدان عليها.

تقول تشانغ: "عندما أعود إلى المنزل لأكون إبنة بدوام كامل، لا أريد أن يكون الأمر قسريا. آمل أن يحصل هذا الأمر لأن الجميع بحاجة إليّ، وأنا على استعداد للقيام بذلك. اعتقد أن هذا أمر إيجابي، وهو يمثل أمرا اختياريا."


افرازات الطفل الواحد

تقليديا، كان من المتوقع من الأبناء دعم كبار السن، وأن يظهروا طاعة الوالدين قبل كل شيء. ولكن بعد عقود من سياسة الطفل الواحد في الصين، أصبح الآباء أكثر استعدادا لتخصيص قدر كبير من الوقت والمال لأطفالهم الوحيدين. ويقول علماء الاجتماع إن الطبيعة المتغيّرة للعائلات مكّنت أيضا من قبول الأبناء البالغين العائدين إلى ديارهم، قبل وقت طويل من حاجة الوالدين إلى الاهتمام بهم كأشخاص مسنين.

ويقول "مو تشينغ"، الأستاذ المساعد في علم الاجتماع وعلم تطوّر الانسان في جامعة سنغافورة الوطنية: "السبب في ارتفاع هذا الإتجاه هو هذه القيمة المتغيرة للأبناء؛ فعلى نحو متزايد، نرى أن المزيد من الآباء الأكبر سنا هم أكثر قبولا لتقديم هذا الدعم السائر نحو الانحدار."

وتفترض تيان، المدوّنة في تشوهاي، أن هناك من يعتبرها "مستلقية" أو "تقضم" والديها؛ غير أنها قالت بكونها تجني المال من خلال مهامها على وسائل التواصل الاجتماعي، كما أن قدرتها على قضاء وقتها وإنفاق المال على أختها الصغرى يخفف من كاهل العائلة. مع ذلك، فهي لا توصي بهذا النمط من الحياة للجميع، وتقول: "إذا بقي كل واحد في المنزل، وعندما  أخرج لتناول الطعام، فلن يكون هناك أي أفراد يقدمون الخدمات. وإذا ما خرجت لالتقاط الصور، ستكون مواقع التصوير خالية من أي عمال. بالنسبة للمجتمع بشكل عام، هذا الوضع ليس جيّدا تماما.. وفيما يتعلق بي، أنا أشعر حقا بأن العمل يحددني بشكل مفرط، وكنت أشعر بالضيق يوميا، ومن ثم توقفت عن الذهاب. لكن بالنسبة للكثير من الناس، فهم يذهبون إلى أعمالهم وهم يشعرون أيضا بسعادة غامرة."


صحيفة لوس انجليس تايمز الاميركية