أشجار وذكريات شارع أليف

منصة 2024/01/17
...

 هدى عبد الحر 


تقع روضتي الجميلة التي درست فيها لسنتين رائعتين  في شارع فرعي صغير، لكنه  مشجر "باليوكالبتوس" المعمر- كما خمنت لحظتها- إذ تطاول جدا حتى صارت قممه غير مرئية بنسبة لطفلة بحجمي، أما لحاؤه فقد تقشر كاشفا عن بياض مشوب بالاصفرار..  هل كتبت اسمي على جذع  شجرة منها؟ إذ تعلمت مبكرا خطّ حروف اسمي الثلاثة، لست متأكدة، ولكن في الابتدائية أتذكر تماماً المرات الكثيرة التي حفرت حروفي على جذوع تلك الأشجار، فقد أدمنت محبتها جدا، فهي عالم أثير بالنسبة لي أحب أن أراقبها وأبحث فيها عن أشياء جديدة.  فهي ساحرة مدهشة، فضلا عن لحظات انتظاري لزميلاتي للرجوع للبيت، وما زلت أظن أنها تحتفظ  بالكثير من الأمنيات والأحاديث والذكريات وضحكات البراءة وأسرارنا الأولى.

الأشجار تلك، كانت ملاذنا الآمن في نهارات الصيف اللاهبة، فهي تمتلك ظلا وارفا يحمينا من شمس العراق الوهاجة. وأحيانا كنا نحتمي بها من قطرات المطر أو الريح.

ولم تكن تلك الأشجار مجرّد مظاهر جمالية تزين الشوارع والمداخل وظلال خضراء فحسب، بل كانت هي العنوان لأغلب الأماكن، فهناك المدرسة التي قرب شجرة السدر، وهناك بيت صديقتي التي تهجع في بابهم شجرة توت عالية، وهناك شجرة الخوخ التي ترنو من وراء الحائط، وكأنها فتاة خجلة تنظر للمارين.

هذه الأشجار عبارة عن بيوتات آمنة، وأوطان صغيرة ودافئة لأغلب الطيور، التي كنا نألف زقزقتها وتغريدها وهديلها.

لكن ما نلاحظه الآن.. اختفاء أغلب هذه الأشجار والحدائق من الساحات العامة، بل حتى من المنازل بسبب استثمار المساحات في بناء محال تجارية، أو شقق سكنية، أو لغرض الايجار، أو بيع جزء من البيوت لأسباب كثيرة.

هذا القحل والقحط  يؤذي الروح جدا، ويجب أن نجد له حلولا عاجلة، فالأشجار روح المدينة وقلبها النابض ورئتها التي تطرح لنا الهواء الذي نتنفسه. نعم.. هناك تغيرات كبيرة في المناخ، وهناك شحّ في الماء والمساحات الصالحة للزراعة، ولكن يجب أن يكون هناك في كل مدينة خلية عمل تعمل على إعادة الحياة للشوارع والبيوت والساحات، هناك أشجار تتحمل العطش وتتحمل الحر.. وهناك طرق عديدة يمكن أن نعيد بها هذه الموجودات المدهشة إلى حياتنا.. لأننا نحتاجها فعلا، فهي ليست مجرد ترف، أو إسقاط فرض، بل هي حاجة وضرورة يجب أن تدخل في حسابتنا دائما، بوصفها جزءا من ذواتنا التي تحب الحياة. فلا يمكن تصوّر مدينة من دون شجر، ومن دون يوكالبتوس أو أكاسيا.. هي لون المدينة ورونقها الذي يجمّلها في عيون أهلها وزائريها.