حسن العاني: {صاحبة الجلالة} منحتني الشهرة والأدب أورثني الفقر

منصة 2024/01/30
...

 حوار : ورقاء الخزاعي

 كان مزاجاً من ملح الأرض والتصالح مع الذات والآخر. وخلافاً لسنة الحياة، يترك بعض الراحلين ندوباً آسية في وجه وطن أحبهم، ومساحة يعز على الزمن بعدهم أن يشغلها بأمثالهم، رغم جديد ولاداته الكريمة. حسن العاني، يندرج ضمن أولئك الراحلين الذين أورثوا تركة أسى محضة. لكنهم خلفوا أيضاً وصية نبل وسعي لاستمرار الكلمة الشعريَّة والموقف الأدبي الذي قد تنمحي طباشير سبورته اليوميَّة، لكنه يرقد في الذاكرة كدرس دائم في التسامح والمحبّة والرؤية الشاملة. كتب العاني إخلاصه عبر عقود من العمل الصحفي الدؤوب، ونشر روحه المتجاوزة للأزمات، كما بسط حوله مفهومات تمهد للمقبلين لمعنى الوطن والثقافة والاحتواء. في هذا المدى المستعاد، تتفرّد الصباح بنشر أحد آخر حواراته المفعمة، وتعرض ما جاد به للحياة، قبل أن يترك فقدانه الأثر الذي لا تغفر له الكلمات.
* كيف تُصنّف نفسك، أديباً أم صحفيَّاً؟
-  كنت أتمنى أن أخبرك، بأنّي ولدت صحفيّاً أديباً، أو أديباً صحفيَّاً، لكن هنا سأفقد مصداقيتي، فعندما كنتُ تلميذاً في مدرسة الكرخ الابتدائيّة، قدمت مادة الإنشاء لأستاذ اللغة العربيّة، وعندما قرأها، اسمعني كلاما لم استوعبه، إذ قال لي "اِبني هذا الإنشاء حكاية… يعني (سالوفة) لا تكتب مستقبلاً بهذه الطريقة، لكن تعابيرك الجميلة، تقول إنّك ستكون شاعراً في المستقبل!!"، ربما بسبب تلك الشهادة بدأت أكتب الشعر، وأنا في الأول متوسط، ثم اكتشفت عندما دخلت إلى الجامعة في كلية الآداب، قسم اللغة العربيّة، أن ما كتبته ليس فيه بيت واحد من الشعر، خصوصاً بعد دراستي مادة العروض ومعرفة الميزان الشعري، ولهذا قمتُ في لحظة شجاعة بتمزيق كل ما كتبته من قصائد.  
*  ما الذي يستهويك أكثر، صفة كاتب عمود صحفي أم كاتب عمود ثقافي؟
-  صحيح أن صفة كاتب "عمود صحفي" لازمتني، لكن عنايتي بكتابة "العمود الثقافي" تجسّدت في ما نشرته، من قراءات نقديّة متفرّقة، ومن زوايا ثابتة، على غرار مقالاتي في "جريدة القادسية" التي كانت تتناول قضايا ثقافية معينة، ومقالاتي في "ألف باء" التي كانت تعنى بالثقافة الفنية، منها "سينما - مسرح" وقد نشرتها باسم مستعار، هو "بكر علي عبد الله" كوني أنشر مقالة أسبوعيَّة في المجلة باِسمي الصريح، والجدير بالذكر أنّ مئات من التحقيقات الصحفيَّة التي نشرتها في ألف باء كانت بأسماء مستعارة مثل "أيمن حبيب العمر" او " عبد الله العراقي" .
*  كتاباتك الصحفيَّة أغلبها مكتوبة بلغة الأدب، رغم أنّ لغة الصحافة تختلف بكونها وسطيَّة؟
ـ لم يعترف بي سكان الصحافة، بل نظروا إليَّ أديباً دخيلاً على عالمهم، كوني بدأت الكتابة كأديب وقاص، لكن جرف الصحافة اخذ من جرف الأدب الكثير، إذ نقلت اللغة الأدبيّة الى الصحافة حتى ان أحد أساتذة الإعلام، قال لطلبته يوماً " تذهلني كتابات حسن العاني الصحفيّة، لكنّني أحذركم من تقليده، لأنّ لغته الأدبيّة تعد تهديداً  للصحافة".
*  لماذا اخترت أسلوب السخرية، في عمودك الصحفي؟
-  أسلوب السخرية، لازمني منذ الطفولة، فقد كانت انتقاما لطفولتي، وليس انتقاما من الطفولة، كنت أعيش مع خالي، الذي كان بمثابة أب لي، خوفه الشديد عليَّ، جعلني عاجزاً عن كلِّ شيء، حتى الدفاع عن نفسي، وجعلني خجولاً غير قادر على المواجهة. كان يحاسب كلّ من يؤذيني نيابة عني، لذلك كانت السخرية لها صورة واضحة في كتاباتي، والتي استثمرتها بشكل سخرية سياسية .
*  صاحبة الجلالة ماذا تعني لك؟
"لم أحبّها" لكنّني أدين لها، فقد منحتني الشهرة، وجعلتني أقف أمام القصّاب لأشتري اللحم، في الوقت الذي لم يمنحني الأدب سوى الفقر. تجربتي الاولى معها كانت عندما بعثتُ مقالاً عبر البريد الى إحدى الصحف عام (1970) فوجئت بعدها بنشره، في أهم زاوية بعنوان "اليوميّات" في الصفحة الأخيرة.
وهذا يعني أنّ الجريدة الأولى في العراق، تفتح أبوابها لحسن العاني المبتدئ.
خدمتني الفرصة حتى عملت بها بعد أشهر بصفة مصحّحٍ لغويٍّ على مدى أربع سنوات تقريباً.
وهي فرصة مهمة وثمينة علّمتني أسرار مهنة المتاعب، بعدها عملت في اذاعة صوت الجماهير بصفة "محرر". تواصلت معهم لمدة أكثر من عشرين سنة، وقد توقفت بعد قرار منع زاويتي "ضربة جزاء" التي نالت متابعة جماهيريّة واسعة، لأنّها تتعرّض لمؤسسات السلطة بأسلوب جمع ثلاث خصال (الرمز - النقد - السخرية)، وقد استمرت قرابة "12" عاماً، قبل أن يعتذر مني رئيس التحرير، لأنّه اضطر لحجبها عن الصدور، بعد ضغط الرقابة عليه، تكرر الموقف مع كامل الشرقي لأنّه اضطر ايضاً الى منع نشر مقالي في "مجلة ألف باء" بعنوان عنوان (ألف
ياء)".  
*  ماذا تعني لك ألف باء؟
 -  ألف باء.. مع بداية العقد السبعيني من القرن الماضي، بعثت قصة عبر البريد الى مجلة "ألف باء" وفوجئت بنشرها مع تخطيط جميل، بالتأكيد كنت سعيداً جدّاً، ومنحت نفسي شهادة رفيعة المستوى، بأنّني اصبحت كاتب قصّة معترفاً به، فضلاً عن التحقيقات الصحفيَّة التي كانت تكتب بلغة أدبية لا علاقة لها بلغة الصحافة الاكاديمية، وأعتقد أنّني واحدٌ من القلائل الذين نقلوا لغة الأدب إلى الصحافة بعيداً عن لغتها، وقد حظيت بقبول كبير.
*  القصة والرواية ما مساحتهما
لديك؟
-  على قدر واحد من الأهمية، القصة والرواية، وكانت هناك سمات مشتركة، رسمت الملامح لأسلوبي ورؤيتي الأدبيّة، أهمها الانشغال بموضوع الرمز، وكان هذا واضحاً منذ اصدار مجموعتي القصصيّة الأولى (سيد الأشجار) عام (1980)  ثم (العنقاء في القفص، الفأس والنار، حصان مقابل حصان)، فضلا عن قصة أخرى بعنوان (سيد الأشجار) معلنة انتماءها الصريح الى الرمز، وأهم ما كان يعنيني في بناء الرمز، هو وضع القارئ في مواجهة فكرية تتباين من قارئ الى آخر.
أي أن هناك أكثر من تفسير عبر ما تتواصل به هذه المجموعات مع القرّاء وما تفهمه من الدلالات والاشارات والتلميحات، اما المجموعة القصصيّة الثانية (الرجل الأسطوري) فحرصت فيها على ادخال الغرائبيَّة وسيلة من والوسائل التي يتكئ عليها النص. وايضاً المجموعة الثالثة (ليلة رأس السنة) الصادرة عام (1992)، إذ اعتمدت جميعها على الرمز الغرائبي او غرائبية الرمز، حتى وصلت المجموعة الرابعة (الولد الكبير) عام (2000)، والغريب في ذلك أنَّ هذه المجموعة صدرت وأنا ممنوعٌ من الكتابة بأمر رئيس الدولة، ولكن مدير عام دائرة الشؤون الثقافيّة تولى طبعها بشجاعة تستحق انحنائي واحترامي الكبير له.
*  لماذا منعت من الكتابة في زمن النظام السابق؟
-  عام 1999 أصدر رئيس النظام السابق قراراً شفويَّاً في اثناء اجتماع مجلس الوزراء يقضي بمنعي من الكتابة في أي وسيلة إعلاميَّة عراقيَّة سواء كانت (جريدة - مجلة - إذاعة – تلفزيون).
وأغرب ما في هذا المنع أنّه كان مدى الحياة، في تلك الفترة كانت هناك علاقات طيبة مع بعض المطبوعات الخليجيّة، كنت أكتب لهم المقال والتحقيق مقابل أجور لا يستهان بها، وأنا مدينٌ بالفضل لزملائي في توفير هذه الفرصة.
*ما تقييمك لواقع أخلاقيات المهنة في الإعلام العراقي؟
ـ للأسف لم يتبقَ أخلاقيات مهنة، لأنَّ الصحافة أصبحت بيد كلِّ من هبَّ ودبَّ، فأغلب من عمل بها بعد (2003) لا ينتمي اليها، ومن يمتلك حق السلطة عليها غير جدير بذلك، واقع مؤسف .
*  بنظرك كيف يكون الصحفي كاتب عمود مقروء؟
-  يجب أن يكون بعيداً عن السلطة، يختار المكان الصحيح والمناسب في الكتابة، ويجتهد في ذلك، ويقرأ كتابات الآخرين، عندها سيكون عموده مقروءاً.