رؤوس شوقي الموسوي.. استعادة المضمر من الواقعة

منصة 2024/02/01
...

 نصير الشيخ

هل يتمكن الفنان من تحرير ذاته إزاء الوقائع والأحداث، وبالتالي امتلاك رؤية كونيَّة تنزاحُ عن المتضامن في دواخله متجهة صوب خطاب جمالي متجدد؟ وهل يمكن للفنان إعادة إنتاج خطابه الفني على السطح التصويري، ومادته الصور والمشاهد من زمن الحروب والقتل المجاني والذبح لتتحول إلى رموز ودلالات وعلامات تكتظ بها أعماله الفنيَّة؟
الدكتور شوقي الموسوي يضعنا في متوالية رسمويَّة معبرة عن نسقها الإنساني، تكون الوجوه حاضرة والمركبة على رؤوسٍ مقطوعةٍ حتى الرقبة، رؤوس تشير إلى واقعة تجددُ حضورها بفعل إرغامات التاريخ وعصور الهمجيَّة الجديدة. رؤوس شكلت متوالية مستلة من ذاكرة الفرد وهي تعيدُ خلقَ الواقعة لتكون اللوحة مساحاتها الشاسعة في مديات تعبيرها.
رؤوس تتشاكل ناظرة إلينا (وجهٌ ساهمٌ وأعين مغمضة، ولحى مخضبة بالأسى والدم) كأنها في حلمٍ سرمدي، وحين التحديق فيها ملياً كأنَّها توجه لنا الإدانة وتحاكم زمننا المشهود عليه بالجرم، متوالية الرؤوس المقطوعة (لوحة شهادة وطن) هي جزئيَّة من مشهدٍ تاريخي يمدُّ نسوغه الواقعيَّة والروحيَّة في منعطفات التاريخ.
مشهد القتل منذ قابيل وهابيل مروراً بمأساة الطف والتي تتوقف ريشة الفنان شوقي الموسوي عند نقيع دمائها، كيف لا.. وهو ابن المدينة الشاهدة والشهيدة، كأنَّ به يتأمل هذا المشهد الدرامي، وأنَّ "الطف" هو مركزة القتل، وتصفية القيم الخيرة بمعناها الإنساني المطلق، يقابلها على الجانب الآخرالقاتل بكامل عدته وشراستهِ ودأبهِ على رسم خريطة من رؤوس تحتكم إليها مشاهد الذبح المتكررة، حيث الانتقال من المرئيات المتوالدة من التصور الذهني، إلى نطاق الوعي لدى الفنان واستجابته الثقافيَّة وصولاً لحضور الواقعة كنصٍ رسموي بمعاييرهِ الفنيَّة.
الموسوي لا يزخرف الجسد، ولا يجعل منه إعلاناً، بل ولا حتى استغاثة، لكنَّه في الوقت نفسه يعيدُ قراءته كواقعة تاريخيَّة قائمة على العنف، من منظورٍ يحافظ فيه على كل ما لم يدفن، ويتوارى في الماضي.
فيه، بل كواقعة ما زالت في عنفوانها: رؤوس لا علاقة لها بفعل الموت. لا واقعياً ولا رمزياً. لأنها ما زالت تمتلكُ حضورَها الغائب.  الموسوي يستحضرُ المشهدَ الدموي وعمقه التاريخي وأثره الرمزي، وبما يستجلبه - أي- الأثر من معطيات قارة في الوجدان الجمعي، لينهض بين يدي الفنان تجّسدٌ جديدٌ من مكونات آدميَّة وإنشاءات صوريَّة ولونيَّة تتوزع سطح اللوحة لديه في إشارة لفعلٍ متحققٍ لدى الفنان على إعادة إنتاج الواقعة وحضورها في مجال الفن بكل محمولاتها التاريخيَّة والوجدانيَّة.
لوحات الموسوي هي متوالية "الشهادة" منذ العاشر من محرم وحتى اللحظة، بالإشارة الى الفعل الهمجي الذي قامت به عصابات "داعش" الإرهابيَّة وموقف الذبح المتأصل في أفكارهم الظلاميَّة. لوحات شكلت بودقة انصهرت فيها الرؤى والأجساد والدماء وغابت تحت هلعها الأرواح، وحزت أوردتها نصال السيوف، متوالية الرسم جاءت في أعمال (شهداء وطن/ قربان/ شهداء من وطني/ احمرار تربة/ طريق الجنة/ حكاية شهيد/ رؤوس/ نذور/ الحسين/ أحزان كربلاء).. هذا النسق المستل ـ كما أسلفنا ـ من التاريخ ومشهديته الكربلائيَّة، يتنامى في صحائف الموسوي "واقعة شيئيَّة" على سطح اللوحة، حيث تحضر الوجوه كمنظورٍ أولي، لتكتمل مع الرأس المقطوع بتجسده الكياني رغم بتره عن باقي الجسد، لأنَّ الرأس هو حامل الفكرة والمبدأ والقضيَّة والرفض، رؤوسٌ تجد وجودها العيني بلا انزياح ٍشكلي، أو لعبة فنيَّة.
رؤوس مقطوعة تتوالد وتتوزع في مربعات اللوحة، كأنها تأخذ حيزها الوجودي وبعدها التاريخي، وهي الصاعدة في رمزيتها والداخلة في الوجدان الشعبي. إنَّ الموسوي لا يروي لنا الواقعة.. وإنما الرؤوس المقطوعة هي التي تحاكينا ببلاغة الموقف. (هذه المشاهد ليست بحاجة إلى كينونة، وليست بحاجة إلى اختبار، كي تشغل الفنان، فالكينونة "الجوهر" هو ذاته قد أصبح فائضاً. مثلما لم يعد للطبيعة أو موضوعات الفن التقليديَّة معنى، لقد ترك الفنان أصابعه توثق، ولا تدفن أو تتستر على الحدث، الفجيعة تركها محكومة بغياب حريتها، وليس بانعتاقها، أو تمتعها ببراءتها).
التعبيريَّة تحضر هنا أسلوباً متفرداً يختار إيقاعه مع دراميَّة المشهد وتنامي رمزيتهُ، ومحاولة الفنان الدائبة لاستبطان الجوهري منها، اللوحة تتوزع على شكل مربعات، كل مربع يضمُّ رأساً مقطوعاً، رؤوس على وجهها عيونٌ مسبلة كأنها ترى العالم الذي صعدت أرواحها منه ولأجلهِ، عيونٌ مغمضة أمامنا، وكأنها تدينُ عالمنا المعاصر البشع الذي أدمن قطع الرؤوس، وكأنَّه يوماً بعد يوم أدمن البشاعة واختراع الحروب رغم تشدقه بالحداثة وآليات العلم.
تتواتر الرؤوس المقطوعة في أعمال الموسوي كلما تصاعدت دراميَّة المشهد بتقادم الأزمنة، وتغور الوجوه في مربعات تراتبيَّة، ليس من شاهد عليها سوى بقع الدم "نذور/ رؤوس/ الحسين".
(تحيلنا هذه الإشارة الى ذاكرة بصريَّة وجدت هوى لدى شوقي الموسوي: الانتقال من الانطباع ـ المباشرـ المشغول بمباهج الطبيعة، نحو التعبير/ الغوص في مناطق النفس النائيَّة، حيث الإفصاح غدا يتطلب العثور على ممراتٍ نحو المخفيات، وهي إشكاليَّة لن تتحقق بيسر ما دامت الطفولة شديدة الانتماء الى أجواء بيته الهادئة، إلا عبر معالجاتٍ لونيَّة لا تخصُّ صراعه في اختيار أسلوبٍ لم يعد تعبيرياً، بعد أنْ أجرى عليه سلسلة من التشذيبات والاختزال).
إزاء مساحة الرماد وتدفقات الدم القاني على السطح البصري، يتخذ اللون الأخضر مساحته المتمركزة في أكثر من عمل، بإشاريتهِ ورمزيتهِ ليصبح هنا عامل توازنٍ لوني وروحي، بينما تتناثر هناك بقع الدم النازةِ من جرح الواقعة واستدعاءات التاريخ في وجدان الفنان.
لذا، كيف لنا الإمساكُ بمركزيَّة الرسم لدى شوقي الموسوي، هل يحضرُ شاهداً عصرياً متبنياً مدارس الرسم الحديثة في تعبيريتها، عابراً بنا نحو محاكاة التاريخ وإشكاليَّة التناص؟
أم أنَّ الواقعة القارة في امتدادها الزمني والوجداني أضحت مهيمنة في وعي الفنان وأسلوبه الرسموي، مخصصاً لها هذا المعرض الشاهد، واللوحة لديه سطحٌ طوبوغرافيٌّ، يمكننا من التعرف على النسق البنائي والتشكيلي للفنان في هذه التجربة المتفردة.
* الإشارت المقوسة هي تضمينات بقلم الناقد التشكيلي العراقي الراحل عادل كامل في كراس/ فولدر المعرض الشخصي السادس للفنان "رؤوس" وتحت عنوان " في تجربة شوقي الموسوي ــ من النذور الى الغبار" 2016.