علي لفتة سعيد
يسعى النحات وسام الدبوني إلى جعل المتلقي لا ينظر إلى المنحوتة على أنها أثرٌ انطباعي وشكل خارجي فيه انبهار التصنيع الفني فحسب، بل يسعى إلى أن المشاغلة معه في تفسير وتأويل العمل نفسه، باعتباره انجازا مخيلاتيا، قائماً على معرفة العمل النحتي من كل الاتجاهات بطريقة دائرية. وهو ما يفعله مع أغلب أعماله التي تتركز على كيفية قراءة الأفكار وأثر الثقافة على المجتمع وأثر الواقع على الثقافة، مثلما يتوضح اهتمامه بمشاغبة الفكر الثقافي، حين ينجز عملا يضع فيه الكتب في سلة المهملات ويترك غطاءها الأعلى شبه مفتوحٍ وشبه مغلقٍ وكأنها صرخة عالية.
إن ما يميّز الدبوني أنه يحاول استنطاق المادّة التي تقع بين يديه، من خلال تشكيل المعنى الظاهر على أنه يحمل روحا قادرةً على استدراج المتلقّي الى منطقة الفهم. لذا فإن الحجر أو الخشب أو الحديد وحتى الحصى والحجارة، لا تبقى صامتةً أمام فكرته ومخيّلته ومن ثم أمام أزميله، فيشكّل منها ملامح فنيةً متميّزةً قادرةً على المكوث في ذهن المتلقّي.
لذا فإن المخيّلة والفكرة هي التي تهديه نوع العمل الذي يستغرق منه وقتا في المرحلة الشفاهية، ليقرّر أيها يستخدم.. الخشب وأيّ خشب، هل هو الصاج أو الجام أو الكالبتوز أو الجاو؟، وربما يستخدم الحديد أو ربما الفايبر كلاس أو الرزن، وفي بعض الحالات يلجأ إلى استخدام الحجر والحصى وربما يقوم بجمعها كلّها في عمله، كونه يسعى إلى ما يطلق عليه الفن التنسيقي الذي يعتمد على إعادة تدوير الأشياء أو صناعة ما هو متاحٌ وموجودٌ من أثرٍ غير منسّقٍ لصناعة أشياءٍ فنية منه، وكأنه يستغل الديستوبيا والخراب لتشكيل فنّ راقٍ يتحوّل إلى عملٍ نحتي لديه. ليقوم بعدها بطلاء أو تلوين العمل بحسب ما يريد من عملية الممازجة بين الفكرة والشكل الخارجي. ويمكن ملاحظة أن أكثر أعماله تمتاز باللون الأخضر المائل إلى اللون الطحلبي الباهت، دلالة على التمرّد أو الاستنكار وحتى السخرية، وكذلك اللون الأصفر الذي يحيل العمل على الصرخة الكبرى، فضلاً عن لون الخشب المعروف (الجوزي/ القهوائي) وكأنه يضع مادة (الدملوك) ليعطي إبراز العمل خصائص الإبداع، ومعرفة التفاصيل الدقيقة التي تميّز المبدع عن غيره، وخاصة في العمل النحتي للقدم والساق، حيث تبرز الملامح الخاصة بالخشب، مثلما تبرز المعالم العامّة بتفاصيل القدم وكأنه عمل قالباً ومن ثم ملأها بالخشب.
إن الدبوني لا يستكين في العمل ولا يريد إعلان تأثره بمدرسةٍ نحتية معينة، فكلّ ما يهمه أن يكون العمل لديه له صوتٌ وناطقٌ بالتأويل أمام المشاهد. فتراه مرّة مع المدرسة الانطباعية ما بعد الحداثة وأخرى مع السريالية أو الدادائية. لذا فإن عمليات التنسيق للمواد أو دمجها في العمل الواحد يعطيه القوّة كي لا يكون أمام أثرٍ وتأثير المدارس النحتية، بقدر ما يريد أن يكون العمل قادراً على ممارسة ضغطه النفسي، لكنه يبقى منشغلاً بالهم الثقافي الذي يرمز له بالكتاب.. الكتاب الذي يحتاج الى قدرة الصيد ليعلّق ثلاثة كتبٍ بأحجامٍ مختلفةٍ وباتجاهاتٍ مختلفةٍ بسنّارة كي يعطي رسالة التأويل ومعرفة التفاصيل الى المتلقّي.
وهو الأمر الذي فعله أيضاً حين نحت من مادّة الحديد والخشب لبلم (مشحوف) محمّلًا بالكتب بطريقة من يحتجّ على الإهمال القرائي، رامياً بالبلم في موج النهر، وكأنه يحذّر من الغرق النهائي للثقافة، فيما ترك رجلاً عارياً أمام لوحٍ خشبيّ يشبه الباب أو الجدار، أدخل رأسه، تاركاً ظهر عريه إلى الخارج أمام أنظار مرآة هي عين الآخر المتفرّج الساخر، ربما أو المنتقم أو الهارب، وربما هي الرسالة الأخرى من عملية التأويل إن المواقف والأفعال مفضوحةٌ أمام الآخرين، مهما كان الأمر خافياً أو يعتقد أنه خافٍ عن أعين المتلصّصين له، أو حتى يتخيّل أنهم يتلصّصون، وربما يراها البعض أن الإنسان في الكثير من الأحيان يسعى لأن يكون كما النعامة.
إن أعمال الفنان الدبوني تشاغل الحياة الإنسانية من مفهومه الثقافي، مثلما تشاغله هو في ما آل إليه الإنسان فيسعى إلى التعبير عنها بأعمال نحتية.. فيما يخوض من جانب آخر تجربة البحث عن الإنسان ذاته في بدائيته أو وتناميه.. في حركته أو مسعاه، وكأنه يوائم ما بين الفكرة والحديد مثلا، حين ينحت منه قاربا يمسكه إنسان لينقذه أو يدلّه على طريق الخروج من محنته. فلا تبرز التفاصيل لأنه اتّجه الى سريالية اللحظة التفكيرية، كونه أمام مادّة (خردة) لا تسقيم كليًّا مع الفكرة التنسيقية لإظهار النهايات، فيتحوّل إلى التنسيق إلى عملية تمازج ما بين الحديد وما يمحنه من خاصية التعامل مع الفكرة، أكثر منه في التعامل مع القدرة النحتية على عكس الأعمال الخشبية أو الفيابر كلاس وحتى الحجر حيث تستجيب هذه المواد إلى الأزميل
والمنشار.
إن أعمال الدبوني وهو في أواسط العمر تجعل المتلقّي يفكّر معه.. يريد أن تبدو على أعماله هو الاشتغال بالمترسّب من المواد، لكنه يحوّلها الى أعمالٍ إبداعية. حتى أنه تشغله حاوية النفايات من جديد، ولكن هذه المرّة لا يترك الغطاء شبه مفتوحٍ أو شبه مغلقٍ، بل يملؤه بالأسلحة التي تقتل الانسان، معبرًّا عن تجلّي الروح ومعارضتها للحرب وكأنه يضع أمنية الإنسان في التخلّص من الأسلحة ورميها في حاويات النفايات أو الأوساخ أو القاذورات، لعلّها لا تطلق رصاص الموت.
إن هذه المخيّلة تبقى ناضجة، لأنه يبحث عن موادّه الأولية من الطبيعة، ليعود إليها بفكرةٍ من الطبيعة، من دون أن ينسى بيئته الدينية في العمل الخشبي، مازجا بطريقة النحت عناوين وأمكنةٍ كربلائيةٍ على عمود متسامٍ مرتفع إلى الأعلى.
إنه فنّان يمتلك القدرة على تحويل كلّ ما يراه الى مادّةٍ نحتية، لها فكرة تتناغم مع أفكار المتلقّي أو تقترب منه كثيراً. ولذا تبقى المادّة التي يعثر عليها هي التي تشكّل أفكاره، وإن كانت الفكرة قد تحضر أولاً، وأيضاً ليبحث عن المادة التي يعيد تشكيلها فنياً.