د. نصير جابر
في العالم.. كل ما نراه الآن من أجهزة دقيقة ومخترعات مبهرة ومكائن معقدة ورحلات فضاء طويلة لمحطات دائمة في الفضاء الخارجي، وتلسكوبات هائلة تتوغل في مجاهيل الكون الشاسعة المخيفة، كلّه من صنع البشر، ونتاج عقلهم المحض، العقل التراكمي الجمعي الذي أسّس لجذور معرفة راسخة بُني عليها صرح العلم عبر العصور.
فأيُّ منجز تام ومكتمل نراه، بدأ بخطوة قد تكون قدحة حالمة، أو ساذجة بسيطة أو غبية جدا أو مجرّد مصادفة في بعض الأحيان، ثم تشكّل، ونما وتطور ليظهر بشكله الكامل مسجلا ببراءة اختراع تبهر الآخر، وتجعله ينظر لصاحبها بطريقة مختلفة أو عملا له قيمته المادية الفعّالة، فطائرة الجامبو العملاقة مثلا بدأت بقفزة عباس بن فرناس الجريئة وغير المنطقيَّة في آن واحد.
ولكن اعتاد البشر ومنذ أزمنة بعيدة على ابتكار قصص وهميَّة ونسج حكايات خرافيَّة تسوّغ ظهور بعض المبتكرات عالية الدقة أو التي يغلفها الغموض وإرجاعها إلى كائنات وهميَّة زارت الأرض في أزمةٍ ما، أزمنة سحيقة لا نعرف عنها شيئا، فالأهرامات مثلا بما احتوته من أسرار عميقة وخفايا غامضة في نظر كثير من الناس هي من نتاج حضارات عاقلة أخرى تمتلك عقلا مختلفا عن عقلنا، ومخترعات ألمانيا الحديثة في مجالات كثيرة في نظر بعضهم جاءت من (الرماديين) أو المخلوقات الجوف أرضية هي وغيرها من المبتكرات.
وهذا التجيير أو تحويل أي شيء علمي أو غامض أو سرّاني إلى عقل آخر محاولة بشريَّة للتنصّل من تبعاته، أو اعتراف ضمني بغباء الكائن البشري الذي من الاستحالة - بحسب هؤلاء - أن ينجز أعمالا ذكية متقنة مثل هذه.
وفي كلا الحالتين يبدو أنّ هناك خللا بنيويا في فهم ماهية الاختراع وطبيعته في الوعي البشري، خلل يحتاج إلى وقفة طويلة.
فماذا فعلنا نحن البشر لكي نجعل من هذه الاختراعات العظيمة موظفة لخدمتنا ما دامت الحياة وجوهرها يتمحور حول فكرة (السعادة) سعادة الكائن البشري، وتوفير أفضل بيئة ممكنة للعيش فيها.
وهل كان هاجس هؤلاء المتنصّلين في جانب منه محاولة لإيجاد مسوّغ لما نتج عن هذه المخترعات من دمار وأذى وخراب وفوضى ومضاعفات وأعراض جانبيّة (غبيَّة) ومدمرة. فأغلب المخترعات التقنية في أول ظهورها سحبت الكثير من الوظائف من العمال، وأسهمت في صنع بطالة هائلة جعلت كثيرا من الأسر تتضور جوعا، وتتفكّك وتتحول إلى أعمال أخرى هامشيَّة ومن ثمَّ هي -أي المخترعات- أوجدت طبقة فقيرة محرومة، عانت كثيرا بسبب ظهور هذا الاختراعات، إذ كانت وبالا عليها!. والمخترعات أسهمت أيضا بعوادمها السامة ومخلفاتها الضارة في تلويث العناصر الأربعة (الماء والتراب والهواء والنار) وزادت بشكل فاحش وهائل من الأمراض والأوبئة، وأسهمت في محو مدن كاملة بسكانها وحيواتها كافة، عندما اخترع الديناميت والقنبلة الذريَّة والقنابل الكبيرة الذكية والدقيقة والجرثوميَّة والكيماويَّة!.
ولكن هل يمكن انكار دورها في تسهيل وحفظ الحياة وتطويرها نحو الرفاهية والأمان بالطبع لا، فهي حسّنت الحياة في جانب وتقيأت حممها في جوانب كثيرة، فصار الكائن البشري الذي من المفترض أنّها جاءت لخدمته مجرّد ترس صغير لا يمكن حتى رؤيته في ماكنة عملاقة يدور حتى مماته المؤكد وتفسخه بعيدا عن أعين الحنو والرحمة والحميميَّة والإنسانيَّة!.
فهل الكائن البشري غبي بطبيعته وأن تطوره الذهني ما يزال ناقصا، ولا يخطّط لما يصنعه، وما سيؤول إليه، لأنّ الآلات التي يصنعها بفكرة أحاديَّة يركز عليها ستنتجُ معها أفكارا أخرى لا يعرفها هو، ومن ثمّ ستأخذ المسار البشري نحو ضفاف جديدة غاليا ما تكون مشوبة بشيء من كشط إنسانية هذا الكائن.
والحقيقة التي تبدو هنا نسبيَّة ككلّ الحقائق في هذا الوجود أن الاختراعات شوّهت جزءا من الوجه الإنساني ورممت جزءا آخر. ومن هنا لا يمكن أن نصف من يخترعها بالذكاء لأنّ الذكاء هو ايجاد حلول جذريّة لمشكلات مستعصيّة لا إيجاد مشكلات جديدة متوالدة.
ولأعترف أن ما دفعني لكتابة هذا المقال هو التهويل الكبير الذي يرافق الآن مصطلح "الذكاء الاصطناعي" الذي يعوّل عليه كثير من الناس في تحسين الحياة والانتقال بها من حال إلى حال، لأنّ هذه التقنية فائقة الدقة في التحليل والتركيب ويمكن أن تجد الحلول لكثير من المشكلات الشائكة والمستعصية وهي تقنية صنعها العقل البشري، أي أن الخلل البنيوي الذي ذكرناه قبل قليل باقٍ في صلب هذا (الذكاء) ومن ثمّ علينا أن ننتظر قليلا فقط، لنرى المخلفات الضارة التي سترافقه وتحايثه لتشكّل حزمة من المشكلات الجديدة التي تنشأ عنه وبسببه. ولعلّ الردّ الذي يمكن أن يقوله أيّ قارئ لهذه المقالة هو"إنّ العقل البشري هذا هو وهذه طبيعته ولا يمكن انتزاع شيء كامل من عقل ناقص" وهذا الطرح -على الرغم من واقعيته - إلّا أنّه يردّ بكلّ بساطة.. أسألوا الذكاء الاصطناعي ليجد الحل؟.
التعويل على المخترعات التي تغيّر وجه الأرض لا يمكن أن يتمّ من دون مخترعات أخلاقية تقابلها وتجايلها، وتكون في القوة نفسها لتستطيع أن تجد الحل الإنساني للمشكلة الناتجة من هذا الانزياح العلمي.
إنّنا نتطور في جانب ونقف في المكان نفسه في جانب آخر، وهذا يخلق فجوة معرفيّة ما بين خطوات الاختراع وخطوات الفكر. ومن ثمّ ستتسع الهوة ما بين (مخترع) سيفرض أخلاقه معه، وحلّ أخلاقي ينتظر أن يتبلّور ليعالج ما جاء به المخترع.