ليلة القدر!

الصفحة الاخيرة 2019/05/27
...

 جواد علي كسّار
شبيهة هي بموازنات الدول في عصرنا الحاضر، فكما لكلّ دولة موازنة سنوية تُحدّد موارد الصرف على الزراعة والتجارة والصناعة والدفاع، والتربية والتعليم والصحة والخدمات وغيرها من مرافق الصرف، كذلك شأنها في الوجود.
ليلة القدر هي موازنة سنوية للوجود، تُحدّد فيها مصائر الإنسان والطبيعة والعالم، بما فيه من خير وشرّ، وموت وحياة، وخِصب أو جَدب، وآجال وأرزاق، وتحوّلات وتقلبات، وكلّ أمر يُلامس حركة الوجود الإنساني والطبيعي، ويحدث فيهما.
ليلة القدر هي من صميم الرؤية المعرفية للتوحيد الإسلامي، ذكرها القرآن صراحة: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ يشهد الوجود فيها: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾. وفي دلالة قوله سبحانه: «من كلّ أمر» شمول كلّ شأن وجوديّ وإنسانيّ وطبيعيّ، بحيث يستقرّ على ضوابط وحدود وقدر محدّد، كما يعزّز ذلك أيضاً، قوله سبحانه من سورة الدخان: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾.
أما شأنها في السنّة الشريفة، فقد جاء في الحديث أن شهر رمضان غرّة الشهور، وقلب شهر رمضان ليلة القدر. وقد سُئل النبي مراراً هل ليلة القدر من مختصّاته، بحيث تُرفع بوفاته؟ فأجاب صلى الله عليه وآله: «لا، بل هي إلى يوم القيامة»، والأروع: «لو رُفعت ليلة القدر، لرُفع القرآن»!
فإذن ليلة القدر في الرؤية الإسلامية، هي ليلة الموازنة الوجودية السنوية العامة، لهذا الإنسان ولكلّ ما حوله، وما يكون وما هو كائن على مدار عامٍ كامل، إلى ليلة القدر في السنة التالية، وهي مستمرّة دائمة لا انقطاع لها، تتكرّر في كلّ عام من شهر رمضان، وعلى هذا إجماع أمة الرسول، يتحرّاها المسلمون كافة في مشارق الأرض ومغاربها، بجميع ألوانهم ومذاهبهم وانتماءاتهم، كما يشهد واقع تضرّعهم في نيل حظوة هذه الليلة، في السابق والحاضر وفي المستقبل أيضاً.
من محدّدات الفوز بهذه الليلة، أنها في شهر رمضان يقيناً؛ في العشر الأواخر من لياليه، وفي أوتارها تحديداً، وثمّ قرائن راجحة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، أنها مطوية في ثنايا واحدة من الليالي الثلاث، ليلة تسعة عشر، وإحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، مع تركيز على الليلة الأخيرة.
ليلة القدر في هذه الثلاثية هي ليلة واحدة، لكن لها مقدّمات في الليلتين الأخرتين. ففي إضاءات أهل البيت، أن ليلة التاسع عشر هي ليلة التقدير، وليلة إحدى وعشرين هي ليلة الإبرام، ويكون الإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين. وقد نستطيع أن نقرّب المعنى من خلال معاملاتنا العُرفية عبر نوافذ ثلاث، كما يحصل في معاملة الحصول على جواز السفر مثلاً، إذ نقدّم الأوراق عبر نافذة أولى، ثمّ تنتقل الوثائق إلى التدقيق عبر نافذة ثانية، ليتمّ إمضاء الأمر وحسمه عبر النافذة الثالثة، لذلك ينبغي عدم الاستخفاف بالليالي التمهيدية، فمن لم يقدّم أوراقه في ليلة تسعة عشر، قد لا يُرفع له اسم في الليلة الحاسمة؛ ليلة القدر.
تبقى المسألة الأهمّ، فالتقدير لموازنة السنة وما يجري فيها يكون من الله، ينزل عبر ملائكته الخاصين لهذه المهمة؛ فعلى مَن تتنزّل الملائكة بأمر هذه الموازنة؟ الجواب: على عهد رسول الله تتنزّل على رسول الله، ومن بعده على ولاة الأمر، واليوم على وليّ الله الأعظم، فلا تفوتنا ليلة هي بمنزلة العمر كلّه!