21 فناناً يحتفون بتسعينيّة الحزب الشيوعي

منصة 2024/04/02
...

 عدنان حسين أحمد


احتفاءً بالذكرى التسعينية لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي (1934 - 2024) نظمت منظمة الحزب الشيوعي العراقي في بريطانيا بالتعاون مع مجموعة من الفنانين العراقيين في المملكة المتحدة معرضا فنيا لـ 21 فنانًا تشكيليًا. وقد جاء في دليل المعرض الذي كتب مقدمته الفنان التشكيلي فيصل لعيبي صاحي بأنّ هذا المعرض "يضم أعمالاً لفنانين عراقيين من مختلف المشارب والتوجهات الفكرية والفنية لكنهم يلتقون في نقطة واحدة وهي حُب الشعب والوطن والتاريخ المجيد لتلك الأرض المباركة؛ أرض ما بين النهرين التي قدّمت للعالم خمس حضارات عظيمة لا تزال البشرية تنهل منها، وتغتني بها".  وضم المعرض أشكالاً وثيمات متنوعة تعكس التجارب الفنية لمُبدعيها الذين ينتمون إلى تيارات ومدارس فنية متعددة تجمع بين الواقعية، والتعبيرية، والرمزية، والتكعيبية، والتجريدية وما إلى ذلك. وبما أنّ مساحة المقال محددة جدًا فسنتوقف عند الأعمال الفنية لتسعة فنانين تشكيليين على أمل أن نعرّج على أعمال الفنانين الإثني عشر الباقين في دراسة نقدية مقبلة وهم على التوالي أنسام الجرّاح، بان الحلي، خلود الدعمي، علي الموسوي، أمين شاتي، حسن الجراح، كاظم خليفة، مهدي الشمري، سعدي داوود، ساطع هاشم، زيد الفكيكي ويوسف الناصر.

تحتاج تجربة فيصل لعيبي إلى دراسة نقدية عميقة وموسّعة للإلمام بأطرافها الشكلية والمضمونية المتعددة، ومع ذلك فإنّ لوحة "البغدادي" تحيلنا مباشرة إلى اهتمامه بالشخصية الشعبية "البغدادية" على وجه التحديد، التي سبق وأن رسمها في المقاهي والأسواق والأزقة والحارات حتى دمغها باسمه ومنحها من روحه الشيء الكثير. تتوازى في "البغدادي" أهمية الشكل والمضمون، فمثلما يراهن على شكل اللوحة فإنه لا يفرّط بمضمونها مع أنّ الأفكار والمضامين "مُلقاة على الأرصفة" ويمكن أن يلتقطها الجميع لكنّ القلة النادرة هي التي تستطيع معالجتها بشكل فني دقيق ينطوي على إبهار واضح في ثنائية المبنى والمعنى. ومثلما هجرت الواقعية الإيطالية الجديدة في السينما الأستوديوهات ونزلت إلى الساحات العامة والميادين الشعبية والطرقات، كذلك هجر لعيبي أستوديوهات الرسم ووجد ضالته المنشودة في الشخصيات الشعبية في المقاهي والأسواق ومنحها دور البطولة بامتياز كبير.

تستنطق الفنانة بتول الفكيكي في لوحتها المعنونة "حالات عشتار" هواجس متعددة تجمع بين الفرح والحزن، والهمّ والجزع، والتجلي والقنوط وثنائيات متعددة جسّدتها بواقعية مرصّعة بالرموز والإشارات الكثيرة التي تنأى عن التسطيح والمباشرة، وأكثر من ذلك فإنها تدعي بأنّ أعمالها الفنية تنطوي على قدر كبير من الموسيقى والرنين الذي ينبعث من أعماق سطوح لوحاتها التصويريَّة التي لا تميل إلى الهدوء والسكينة في معظم الأحوال.

لا تندرج اللقى الفنية للنحاتة ناجحة صالح ضمن الأعمال السيراميكية التزيينية التي نراها غالبًا في الكثير من الأواني والصحون والجرار والمزهريات التي تزيّن البيوت والدوائر الرسمية لتقوم مقام الديكورات التي تحرّك سكونية الأماكن والزوايا الميتة وتمنحها نوعًا من المغايرة والاختلاف، وإنما هي أعمال فنية صرف تقترب من التُحف، خاصة حينما تحيلنا الفنانة إلى الموروث الحضاري القديم لبلاد ما بين النهرين، وتحديدا الحضارة السومرية التي تركت تأثيرها البالغ على تقنيات النحاتة، ولا أقول الزّافة، صالح التي أمتعتنا بعمليها الفنيين "نصب الشهيد" و "فخارية قديمة" كما عمّقت هذا الإحساس الجمالي، حينما وضعت إلى جانب منحوتاتها أعمالاً سيراميكية فنية مصورة من بينها "مشهد بغدادي" و "نساء في السوق" وغيرها من الأعمال ذات المرجعية الأوروبية.

تنفرد لوحة "اشتراطات" للفنان علاء جمعة ببعض الجرأة وإن موّه المواضع الحميمة الحساسة في أجساد النساء الثلاث بالحروفية والضربات السريعة الخاطفة، ولكنّ اللوحة في مجملها "تعبّر عن الالتباس والقيود الاجتماعية المفروضة على المرأة". فالفنان بطبعه يسعى إلى التحرّر والانعتاق من ربقة القيود الاجتماعية والدينية والخرافية ليتيح لأبطاله أن يتنفسوا بصدور رحبة، ورئات مفتوحة عن آخرها. كما عُرضت لجمعة لوحة ثانية بعنوان "أوفيليا" وهي حبيبة هاملت وابنة بولونيوس، وهي من اللوحات الثقافية التي تنطوي على أبعاد درامية ناجمة عن المأساة التي تعرّضت لها أوفيليا بسبب تصرفات هاملت حيث الجنون الذي يفضي بها في نهاية المطاف إلى غرقها.

يستعيد الفنان علاء السريح ذكرياته البعيدة التي تعود إلى سنوات الطفولة والصبا والشباب التي أمضاها ليس في ميناء البصرة وأزقتها فحسب، وإنما في العديد من موانئ العالم ومدنها التي مرّ بها وتمثّلها جيدًا بعين الرائي الخبير ليُعيد صياغتها بطريقة تجريدية تعبيرية يتلاقح فيها الشكل القوي الجذّاب بالمضمون المرهف العميق الذي يتوارى خلف ضربات فرشاته الأنيقة لتفضح خبايا الذات الملتاعة وأفكارها المضمرة التي تتضح شيئًا فشيئًا وكأنّ المتلقي يلج في متاهة مُحيّرة تأخذ منه مأخذًا كبيرًا قبل أن يتنفس الصعداء وهو يجد الطريق إلى بوابة الخروج ليندمج مع المدى المفتوح أمام ناظريه.

وما إن يعبر المتلقي الميناء والأزقة البصْرية حتى يجد نفسه أمام متاهة لونيَّة جديدة أسماها الفنان "أطياف روحانيَّة" نفّذها، كالعادة، بطريقة تعبيريّة تجريديّة ظهر فيها الشكل أشبه ببناء معماري رصين يقوم على هندسة لونيّة مغرية لا يستطيع الناظر الفكاك من سطوتها وتأثيرها العميق بسهولة. فثمة أبعاد فلسفية مواربة بين حزمة الألوان المدروسة التي تنقشع رويدًا رويدًا وتمنح المتلقي بعض المفاتيح التي تسهّل قراءة العمل الفني والاستمتاع به بعد فترة قليلة من العناء والكدح الذهني.

لا يدخر الفنان جلال علوان جهدًا لتقديم جديده من الفن المفاهيمي الذي يقدح شرارته في ذهن المتلقي ويضعه في دائرة الدهشة والإبهار، وأكثر من ذلك فإنها تحرّضه على التفكير وإِعمال الذهن. وقد اشترك في هذا المعرض بعملين ذكيين أولهما "مشروع غير مكتمل" يتضمن مجموعة من الأشخاص محشورين داخل كيس من القماش يشير فيها بشكل تعبيري واضح إلى "حالة الحصار والعزلة المقيتة" التي يعيشها المواطن العراقي ليس الآن فقط، وإنما منذ عقود طويلة خلت. أما العمل الفني الثاني فأسماه "الجذور" نفّذه بطريقة سُريالية صادمة أظهر فيها مواطنًا من الشرق الأوسط هذه المرة، وهو يجتر الماضي ويلوكه ناسيًا أو متناسيًا واقعة الراهن الذي ينطوي على قدر كبير من المأساة. تحتاج الأعمال الفنية للنحات ناظم الجبوري إلى قراءة رمزية في بعض الأحيان، كما في منحوتة "انتظار الغائب" حيث نرى المرأة واقفة أمام الباب المفتوح بانتظار الرجل الغائب الذي يمكن أن يكون زوجها أو ابنها أو شقيقها الذي غيّبته الحروب. تجربة الجبوري النحتية وأشكاله المميزة ومضامينه الإنسانية تهزّ أعماق الكائن البشري مثل منحوتة "الرقصة الأولى" التي يرتدي فيها الراقصان ثوبًا عربيًا أصبح علامة فارقة في معرضه الأخير الذي أطلق عليه تسمية "تأملات حواء".

يتلاقح في لوحات الفنان صادق طعمة المنحى التعبيري بالرمزي وهما يغذّيان بعضهما بعضًا، الأمر الذي يمنح عمله الفني فرادة شكلية ومضمونية تتجاوز المألوف وتنتقل إلى مدار الدهشة والغرابة، كما هو الحال في لوحة "غُبار الفجر" حيث يجسّد أسلابًا باقية ومعلّقة بلا روح ولا جسد وهذا ذروة الاستلاب. يُمثل هذا الغُبار، من وجهة نظر الفنان، غُبار الفجيعة المعلّقة أمامنا علمًا بأنّ الفجر عادة لا غُبار فيه وغالبًا ما يعمّه الصفاء وتعروه السكينة والهدوء. ولو تأملنا هذا العمل الفني جيدًا فسنرى أن الجدار مطرّز بالرصاص، وأنّ الفجيعة تتكلم بلسان فصيح لا تعوزه البلاغة والبيان. أمّا اللوحة الثانية فتحمل عنوان "أطلق الحَمام" وهي  تشخيصية بامتياز تظهر فيها صبية يافعة تُمسك بحمامة في يدها اليمنى وتنظر إلى الأفق، أو الوجه الآخر للأمل الذي نتطلّع إليه جميعًا، وكأنّ هذه الشابة اليافعة تنظر إلى نقطة الضوء الكائنة في نهاية النفق.

يشترك الفنان ثامر الخفاجي بثلاثة أعمال فنية أولها "رموز من وادي الرافدين" الذي رصّعه بالعديد الرموز والإشارات الفنية والتاريخية من بينها أسد بابل، والسبع عيون، والعديد من الشخصيات التاريخية التي تعود لحضارات موغلة في القدِم. أمّا "الشرفة" فهي صحن سيراميكي يأتي ضمن مجموعة من اللوحات السيراميكية، والعمل الثالث هو "تشكيل بالحروف" ينطوي على صفة جمالية واضحة لا يمكن غضّ الطرف عنها أو المرور عليها مرور الكرام.