عبر عشرات العقود استطاعت "المضايف العراقية" ان تؤسس جملة من العادات والتقاليد والسلوكيات التي لا يجوز الاقتراب منها او تجاوزها، وبذلك ارتقت بها الى مستوى (العُرف الملزم) الذي لا يعادل قوة القانون فقط، بل يتعداها، وبذلك اصبح حضورها النفسي والمعتقدي يقرب من المقدسات، ومعلوم ان سكان القرى والارياف، كونهم بصورة خاصة اهل المضايف ومالكيها، لا يتعلمون تلك الاعراف في مدرسة او يأخذونها عن كتاب، وإنما يتلقونها منذ طفولتهم عن طريق المشاهدة والتعامل والمعايشة اليومية.
المضيف العراقي لا يكتفي بفرض شروطه على المستوى الاجتماعي كما يمكن ان نتصور، على الرغم من ان هذا المستوى يحتل المرتبة الاولى، وهو ما سنقف عنده لاحقاً، وانما فرض شخصيته حتى على الجانب المعماري، أي اسلوب البناء... واذا ما تجاوزنا التطور الذي لحق مواد البناء التي كانت تعتمد على (قصب البردي)، في حين بات ممكناً الاعتماد على مواد البناء العصرية (الطابوق والسمنت...الخ) فأن العنصر الاساس هو ان المضيف اياً كان طرازه المعماري، يجب ان يكون عدد (حنياته) فردياً بغض النظر عن صغر البناء او كبره، أي (3 حنيات او 5 او7..الخ) ولا يجوز ان يكون العدد زوجياً، والحساب الفردي هنا له دلالة رمزية تشير الى وحدانية الله سبحانه وتعالى.
من الصعب حقيقة الالمام بتفاصيل المضيف سواء من حيث وظيفته كمؤسسة عشائرية او قبلية تعزز الوحدة بين افرادها وتعطيهم دروساً مجانية في الميدان الاخلاقي وعلاقة الاحترام والطاعة بين الكبار والصغار، ومَنْ يجب ان يتحدث اولاً ومن عليه ان يستمع، وكيف تؤخذ القرارات...الخ ام من حيث المعاني او (الاصول) التي على الجميع الالتزام بها، من ذلك على سبيل المثال تحريم استقبال فنجان القهوة باليد اليسرى، ومن ذلك عدم التسامح في اي شجار او عراك عند باب المضيف، أما اذا تم اطلاق رصاصة فتلك من الكبائر.. وغير ذلك كثير، ولكن أكثر ما تشتهر به مضايفنا هو تكريمها للضيف، ولا يخفى بان مفردة المضيف مأخوذة من الضيف او الضيافة، فهي تتفنن بكل ما اوتيت من سبل لارضائه، فتنحر له الخروف ما ان تطأ قدمه عتبة المضيف، وتطعمه الافضل من طعامها، ولا تسأله عن سبب مقدمه، وتحيطه بأرق عبارات الترحيب، أما إذا كان معروفاً لديها، وعظيم المنزلة والمكانة وصاحب فضل سابق عليها فيتضاعف استقباله احتفاء وتقام على شرفه الولائم، وطلباته كما يقال اوامر، وهنا تكمن المشكلة، فالاميركان ضيوفنا، ونحن الذين دعوناهم لتقديم العون فلم يقصروا، خلصونا من كرسي صدام وظلمه وتمثاله، ومن اسمه الذي ما ترك صغيرة ولا كبيرة الا واحتلها، من القاعات والملاعب الى بيوت الله والمدن، فكيف يمكن ان نقول لضيفنا (إرحل) ونخرج عن أعراف مضايفنا وتقاليد اهلنا.. وقبل ذلك كله، ان هذا الضيف يتصرف (بميانه) كونه يرى نفسه واحداً من اهل الدار، ولذلك ليس في نيته ان يرحل فقد جاء ليبقى، ولن نلوم الا انفسنا ان كان يجدي اللوم والندم!!