د. اركان كيلان
إن اختلاف التوصيف بين الاحتلال والتحرير، لا يعني بالضرورة غياب الهوية أو انعدام الوحدة الوطنية، فلكل فئة وجهة نظر ينطلقون منها من عدة ابعاد وركائز وتبريرات، المتفق عليه هنا ان هناك تغيير قد حدث وان الظروف قد اختلفت بغض النظر عن كون التغيير ايجابيا كان ام سلبيا. المهم ان هناك تغيير قد وقع.
يلاحظ على ان المجتمع المدني في العراق يسير في ركب التغيير دائما فمنذ تأسيسه ما هو إلا امتداد لطبيعة النظام السياسي، ووجوده مرتبط دائما وعلى مر الزمن باقرار من الحكومة، من خلال تشريع قانون ينظم عمله، وكانت وما زالت القوانين هي الوحيدة، التي تكسب الجمعيات والمنظمات الشخصية المعنوية ومنح صفة النفع العام، أي أن شرط التسجيل وفق القانون هو الذي يعطيها الشرعية في العمل وليس التأسيس أو الإعلان أو الإعلام.
الجمعيات قبل أحداث 2003 وخاصة في حقبة النظام البعثي كانت مجرد جمعيات مقيدة، أو مملوكة من السلطة الحاكمة بطريقة غير مباشرة، مثل الاندية كنادي الصيد والعلوية أو كانت واجهات مخابراتية وامنية، والبعض منها كانت مهنية تنظم عمل المهن الطبية والقانونية والحرفية تتمتع ببعض المرونة بشرط عدم (الخروج على الحاكم)، وبتوجيه منه وحتى جمعيات حقوق الانسان والدينية الوقفية، كانت تصب في مصلحة النظام السياسي فقط أو دعم حملاته. الصفة الغالبة لكل هذة التنظيمات: يعاب عليها انها كانت بعيدة عن المواطن والمجتمع، وحكرا على فئات ونخب قريبة من النظام الحزبي، حتى أن المواطن كان يشعر بالخوف والريبة وعدم الثقة بهذة التنظيمات، الا بعض الجمعيات الخاصة بالهواة مثل أصحاب جمع الطوابع أو الجمعيات، التي تنظم اجازات السوق الدولية، مثل جمعية السيارات وغيرها كان المواطن يستطيع المشاركة في بعض نشاطتها أو الانتفاع من خدماتها. اعداد الجمعيات وتخصصاتها كانت محدودة، ولم يتم تسليط الضوء عليها في الإعلام ولا حتى نشاطتها، فكانت محصورة على المستفدين منها فقط، أما تواجدها فقد تركز في العاصمة بغداد والبصرة ونينوى، وبشكل محدود في باقي المحافظات وكان تسجيل الجمعيات في وزارة الداخلية في مديرية الجمعيات بموجب قانون رقم (1) لسنة 1960.
وما يميز هذة الحقبة من المنظمات: انها كانت تحصل على دعم مالي ومعنوي وتسهيلات من الحكومة وتمنحها الاراضي والعقارات، لذلك كانت توصف بأنها واجهات للنظام السياسي وصنفت التغيير، الذي حدث سنة 2003 بأنه احتلال واعلن البعض منها المقاومة.
اصبحت المنظمات بعد احداث 2003 م في العراق الحاضنة الاولى للتجربة الديمقراطية قبل الاحزاب السياسية، وحظيت بدعم مادي كبير خاصة في الاشهرالاولى من سنة 2003 من قبل القوات الاجنبية والمنظمات الدولية المرافقه لها، أو من منظمات الأمم المتحدة، وتم منح الأموال بغزارة بدون رقابة أو مشروع مدروس كان الغاية من هذا الدعم، إثبات وجود وخلق مؤسسات مدنية لذا عملت (سلطة الائتلاف المؤقتة) بزعامة (بول بريمر) على تشريع امر بالرقم (45) لسنة 2003 لتنظيم تسجيل المنظمات غير الحكومية في وزارة التخطيط والتعاون الانمائي، آنذاك وتأسيس (مكتب مساعدة المنظمات)، الذي انتقل في ما بعد إلى الامانة العامة لمجلس الوزراء وبإشراف (وزارة الدولة لشؤون المجتمع المدني) إلى ان انتهاء بتشريع قانون المنظمات غير الحكومية النافذ رقم 12 لسنة 2010 وتأسيس دائرة المنظمات غير الحكومية.
هذا يعني أن المنظمات غير الحكومية حظيت بدعم مادي كبير، لكي تكون احد اهم أوجه التغيير والصفة الميزة للتجربة الديمقراطية الحديثة في العراق وهويتها، لكن الروى اختلفت. البعض يعدها إحدى ممرات الاحتلال وأذرعها، والبعض يعتبرها حالة حضارية ومدنية وسلطة لمليء الفراغات بين الشعب والحكومة. بينما اطلق عليها البعض بأنها منظمات صنيعة الاحتلال وتخدم وجوده.
بغض النظر عن اختلاف الروى وجود المنظمات ضرورة لأنها حاضنة للمجتمع وحلقة الوصل بين المواطن والحكومة وجهة رقابية، لما تمتلكه من شخصية معنوية وامكانيات مادية ومعنوية وخبرات. ما يميز هذه الحقبة من المنظمات بأنها: كثيرة ومتخصصة ولا يوجد لديها مصادر تمويل ثابتة، اذ يعد التمويل احد اهم واصعب تحدٍ يواجه المنظمات ويهدد ديمومتها وبقاءها ويعرقل مسيرتها في تنفيذ أهدافها المرسومة في نظامها الداخلي، والحكومة لم تشرع قانون لدعم المنظمات وتركتها تبحث عن مصادر تمويلها بمرونة عالية.
اذن هناك جدلية واختلاف في توصيف أحداث 9 من نيسان 2003 بين الاحتلال والتحرير ويعده البعض (دليل على ان العراقيين لا هوية وطنية تجمعهم مما سبب عدم استقرار البلد، اذ لا نجد مشتركا واحدا يجمع عليه العراقيون لغة، دينًا، مصالح مشتركة، مصيرا مشتركًا، قومية)، ومنظمات المجتمع المدني في العراق، ليست بعيدة عن هذه الجدلية فقد اتهمت بأنها منظمات من صنع الاحتلال، والبعض اطلق عليها منظمات التحرير والديمقراطية والمدنية والليبرالية وبين هذا وذاك فقدت المنظمات استقلاليتها ودعمها وتطويرها.
باحث في شؤون المجتمع المدني العراقي