حكمت البخاتي
لقد شغل الفكر السياسي بصيغته الإسلاميَّة مساحة واسعة من اشتغالات الفكر الديني المعاصر عند السيد الشهيد محمد باقر الصدر وكان ذلك يتزامن مع الصحويات الإسلامية التي انبثقت في الستينات من القرن العشرين ونمت بقوة وتطورت في السبعينات من هذا القرن وكان تتويجها في هذا العقد من القرن العشرين بانتصار الثورة الإسلامية في إيران مما جعل تنظيرات الفكر السياسي الإسلامي قابلة للتحقق والإنجاز في رأي وتوقعات المنظرين لهذا الفكر السياسي والإيديولوجي الإسلامي، وكان في مقدمة المؤمنين بهذا النجاح وإمكانات الإنجاز له على صعيد الواقع هو الشهيد الصدر الأول وقد اعتبر ما حدث في إيران تتويجاً لنضال الأمة الإسلامية وتعبيراً حياً عن ضميرها، وكان ذلك هو الباعث على التنظير الديني- الإسلامي لفكرة الدولة والكيفية التي يقود بها الإسلام الحياة وهو ما دعاه إلى إطلاق هذا العنوان “الإسلام يقود الحياة” على آخر كتاباته التي أفصح بها مباشرة عن عقيدته السياسية في الدولة الإسلامية.
لقد اقترنت القيادة للحياة في الذهنية الكلامية والأصولية والفقهية الإسلامية بمفهوم الإمامة، واتفقت التنظيرات الفقهية السياسية الشيعية والسنية على بداهة الدمج الفكري والتحليلي بين الدولة والسلطة والإمامة وكان مصطلح الإمامة هو الأكثر تعبيراً وتداولاً في هذا المجال من مجالات الفقه السياسي الإسلامي، ونقل الفقيه والمنظر في السياسة الشرعية أبو الحسن الماوردي تـ450هـ قولين إسلاميين في الإمامة وضميمتها الدولة أولهما القول بوجب الإمامة عقلاً وسبيل أصحاب هذا القول من الفقهاء والمتكلمين ما (في طباع العقلاء من التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم ولولا الولاة لكانوا فوضى مهملين وهمجاً مضاعين) وثانيها القول بوجوب الإمامة شرعاً وسبيل أصحاب هذا القول أنَّ العقل يمنع عن التظالم والتقاطع ويقتضي العدل والتناصف ولكن بتفويض ذلك الأمر والتنفيذ إلى ولي الدين وفق ما ينقل الماوردي، ولم يتوغل العلماء والفقهاء المسلمون في أصول النشأة التاريخية للحكومات أو ظهور الحاكم سوى قولهم إنَّ الحاجة دعت الناس إلى التسليم لحاكم يقوم بأمر النظام وما يحكمه العقل بذلك، ولكن نجد أنَّ السيد الشهيد الصدر الأول قد استنتج عن القرآن واستنبط القول بتأسيس الأنبياء للدولة وهو قول انفرد به واعتمد تأويل قوله تعالى (كانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)، ورغم الصعوبة التاريخية في إثبات ما ذهب إليه الصدر الشهيد في نسبة تأسيس الدولة إلى الأنبياء بل تؤكد الحقائق التاريخية على الجهل المطبق بحثياً حول أصول الدولة الأولى إلا أنَّ التنقيبات والدراسات الأثرية كشفت عن ممارسات وطقوس تسلم القوانين من الآلهة من جانب الملوك وأنَّ الملوك الأوائل في بلاد الرافدين كانوا وكلاء الآلهة وهي شواهد قد تكشف عن الصيغة الإلهية المبكرة للدولة وللقوانين، فقد عين الإلهان “ أن “وأنليل” الإله “ننا” ملكاً على مدينة أور ثم اختار هذا الإله “ أور- نمو” ليحكم بلاد سومر بصفته نائباً عنه وفق أسطورة سومرية تحدث عنها صموئيل كريمر في كتابه “ألواح سومر”، ويتحدث روبرت ماكيفر في كتابه تكوين الدولة عن أسطورة إغريقية تقول (خشي الإله زوس أن يُهلك التنازع الجنس البشري كله فبعث إلى الناس برسوله هرمس يحمل إليهم الهيبة والعدالة ويوصيهما أن يتخذوهما مبدأي نظام المدينة)، وقد ترتب على إيمان الشهيد الصدر الأول بإلهية الدولة في مبدأ التأسيس لها أو اعتبارها ظاهرة نبوية كما يقول ترتب عليه رفضه لنظرية القوة والتغلب في تأسيس الدولة ونظرية التفويض الإلهي الجبري للملوك ونظرية تطور الدولة عن العائلة ونظرية العقد الاجتماعي كما جاء في كتابه “الإسلام يقود الحياة” رغم أنَّ النظرية الأخيرة في العقد الاجتماعي تكاد تلتقي مع نظريات الفقه السياسي الإسلامي التقليدي والذي تعبر عنه نظرية وجوب الإمامة عقلاً لدفع التخاصم والتنازع، بينما تلتقي نظرية الصدر الشهيد مع نظرية وجوب الإمامة شرعاً لكن جاءت صورتها عند الصدر الشهيد بأكثر من ذلك بتكليف إلهي للأنبياء بتأسيس الدولة وإقامتها وهو ما لم تقل به تلك النظرية الثانية.
ولعل الفسحة الزمنية والظروف السياسية التي كان يمر بها الشهيد الصدر الأول “قدس” لم تمنحه الوقت الكافي في إنضاج نظريته ومراجعتها ولكن المهم فيها وفق ظرفنا المعاصر في العراق هو هذا الإيمان بقداسة الدولة في فكر الشهيد الصدر وعظيم مكانتها في الحقيقة الدينية والإيمانية وما يمكننا من التأسيس عليها في رفع هيبة الدولة إلى مقام القداسة.