وارد بدر السالم
(1) اختلفت المدارس الفنيَّة في توجهاتها المثاليَّة والواقعيَّة والإلهاميَّة في النظر الى الوجود والكون والطبيعة، وهو اختلاف فني على الأغلب وليس واقعياً كما يبدو للوهلة الأولى.
فالاختلاف الفني ضروري لأنه منتج. الوجود متعدد في كينونته. والكون متعدد في أبعاده.
والطبيعة متعددة العناصر هي أيضاً. وفي هذه التعددية لا بدَّ من وجود فوارق وتقاطعات في زوايا النظر والتقاطات مركّزة لكل وجود. وربما كانت الطبيعة أكثر الموجودات أهمية للفن التشكيلي الذي بدأ منها، فالمدارس التي تتناوب في الظهور وهي تلتقط مفرداتها من البيئة والكون الأعظم، وقبل هذا من الأحداث المصيرية التي تواجهها كالحروب، كانت الطبيعة فيها هي الملهمة الأساسية والتعبيرية عن الوجود الكوني المتداخل لو تتبعنا نشأة المذاهب والمدارس الفنيّة
المتلاحقة.
(2) الرومانسيّة والواقعيّة والتجريديّة وسواها من المذاهب والمدارس التشكيليّة هي صيحات غربيّة، تسببت بها ظروف الحروب والثورات والانقلابات العسكرية والتراجع الاقتصادي ومسبّبات الضعف العامة، ولعل الواقعيّة كانت الأقرب للتوصيف الفطري لما يجب أن تكون عليه عناصرها في معالجة التركيب اللوني الواقعي. ومن ثم فإن الفن العربي التشكيلي تأثر بتلك الموجات الفنيّة وانتمى اليها، محاولاً ترسُّم الوجود الكلي عبر مدارس بدأت وربما انتهت لزوال التأثيرات التي كانت مناسبة لظهورها. لكن هذا لا يمنع من ظهور مذاهب أخرى تعقب الفن المفاهيمي في تشتيت اللوحة الى عناصر متناثرة، وغيره من المذاهب التي تحاول تغريب الواقع عبر الرسوم والألوان
والأفكار.
(3) الراحل المبدع محمد صبري كان مع جمهرة من الفنانين التشكيليين، مناصرين للواقعة الفنيّة في أدائها الوصفي، لا سيما من خلال رؤية الطبيعة الريفيّة، ولكن ليس بطريقة نسخها، فقد يكون هذا فطرياً بطبيعته، لكن الخيال الفني عند صبري يتجسد في التقاط زاوية النظر عبر اللون في خيال متمكن من توظيف تدرجات اللون الى الحد الذي يفصل اللوحة عن مضمونها الواقعي، لكنه يبقى أميناً على واقعيته الفطرية المكتسبة بيئياً (وهو ابن الجنوب) كأنما يحاول أن يكتشف الريف من خلال الطبيعة، أو يعكس الاحتمال من اكتشاف الطبيعة عبر الريف والقرية، لذلك فهو ناشط ميدانياً في هذا المضمون الذي أجاده وتفرّد به في خيال لوني بارع تتجسّم فيه مفردات مألوفة واقعياً في فيضٍ نوراني مقبول هو المحفز الأول لما يحتويه من كثافة بيئية واقعية: الأشجار. الأنهار. العصافير. الظلال. الاخضرار. الأعشاب. الصيف. المطر. الطيور. النخيل. السعف. الكائنات الحية الأخرى. فكل هذا ينعكس عقلياً على فرشاته، وبالرغم من أن مساحة الخيال تكاد تكون معدومة في تلقائيّة الرسم الواقعي للطبيعة، إلا أن خيال الفنان يتجلى في تنمية اللون وتدرّجاته، وما يعكسه من أثر نفسي على مجمل الطبيعة اللونيّة التي تحفل لوحاته بها. ومن ثم تكوين الأثر الفني المناسب لأية بقعة يراها فطرياً، لتتحول الى أنموذج لوني حافل بالإثارة والواقعيّة الجديدة. مبتعداً عن أسطورة القرية ومثالية حضورها الباهر، لتنشأ أسطورة اللون والتقنية الفنية التي تسهم في ضبط إيقاع الريف على وقْع اللوحة وقوتها الفنيّة.
(4) في لوحة له عن الطبيعة لمنظر مألوف (من مقتنياتي الشخصية مرفقة مع هذا المقال وعمرها ربع قرن تقريباً) سنرى أنه بالإمكان إحصاء سبعة ألوان لتدرجات اللون الأخضر الوصفية التي تتكامل فيها اللوحة بخيالها الريفي، معبّرة عن تسلسل نفسي مستريح، اتّقدت به اللوحة.
حتى السماء بدت فيها خضراء غارقة في لون سمائي فاتح، كانعكاسات لصفاء اللون وواقعيته الريفيّة التي يجيد صبري تحسساتها النفسيّة والمكانيّة.
ومن الممكن أن يرى المُشاهِد لها بأنّها من دون إضافات، كمشروع جاذب يقترب من التصوير الفوتوغرافي، إلا أن التمعّن في مظهرها الداخلي سيحيل الى الخيال اللوني الذي تميز به فنان الطبيعة بريفه الفطري وقرويته المعتادة في مجمل ما رسمه. ويعطي هذا التجانس المركّب إحساساً بالفرادة والتميز في أن يحيل الفنان الصورة النمطيّة الى لوحة تتحرك فيها الكائنات بمختلف انتساباتها التجنيسية، جماداً وحياة، الى الكون الكلي وتشير اليه أيضاً.
(5) تلك الفرادة تتم عبر تقنية اللون بحسب توصيف الطبيعة، والمهارات الأكاديمية في تطويعها، جعل منها ثنائيات لا تفترق: الطبيعة بما تمنحه من مضامين ولقطات مباشرة وغير مباشرة، واللون وما يكتسبه من قوة إضافية لتعزيز قيمة اللوحة التوصيفيّة ومرجعياتها الضامنة الى واقعها الأساسي. وعلى هذه التقنية المناسبة للطبيعة ومفرداتها الكثيرة، تبدو اللوحة عنده وكأنها لوحات صغيرة تتداخل في ما بينها، لإنشاء متوالية عددية لونية متسلسلة، تشكّل بمجموعها لوحة واحدة. وهذه التقنية اللافتة التي اكتسبها الراحل بمعرفة أكاديمياً، ساعدته للوصول الى ما وراء اللوحة وهي تنمو بَصَرياً لتجميع أركانها، في استجابة اللون الريفي الى واقعيته وغرزه في مكانه الصحيح، ومن ثم مراقبة تحولاته وهو يصنع مواقعه بانسيابية لافتة للأنظار. وهو التدرجات التي تُلاحَظ على مجمل أعمال الراحل محمد صبري التي تنتمي الى الحاضنة الريفية من دون غيرها.
ولد الفنان محمد صبري عام 1955 في مدينة الناصرية، وتخرج من أكاديمية الفنون الجميلة عام 1974، وقد تأسست جماعة الأربعة الفنية من محمد صبري وفاخر محمد وعاصم الأمير وحسن عبود في سنوات الثمانينيات من القرن المنصرم، وحاز على شهادة الماجستير في الفن من اكاديمية الفنون الجميلة في جامعة بغداد.
في عام 2016 عرضت أعماله الفنية في معرض "ذكريات تشكيلية من تاريخ العراق" في كاليري بندك آرت في عمّان. توفي عام 2002 في مستشفى البشير في عمّان.