أشواق النعيمي
يتخذ باسم خندقجي في روايته «قناع بلون السماء» الفائزة بجائزة البوكر العربية لعام 2024 أسلوبا سرديا يجمع بين البحث والتخييل، بطرح خطة لكتابة نصه الروائي المفترض موضحا مشكلة البحث الذي سيتحول إلى نص روائي، يستعرض الأسباب والمبررات التي دفعته لاختيار الفكرة، مدافعا عن موضوعه، معززا وجهة نظره بأسئلة تستفهم عن أسلوب الكتابة والعنوان الذي سيعتمده ووسيلة النشر ورسم ملامح الشخصيات وأسمائهم وانتماءاتهم والسياق العلائقي الذي يربط الجميع، وتقسيم الخطاب إلى زمنين، حاضر، وتاريخي يعود إلى حقبة ما بعد صلب السيد المسيح وظهوره الأول في رؤيا لمريم المجدليَّة.
يسلّط الكاتب أضواءه الكاشفة على شخصية مريم المجدليَّة، من وجهة نظر تخالف ما طرحه دان براون في روايته «شفرة دافنشي» مصرًّا على فضح المسكوت عنه في التاريخ الديني المسيحي.
تعد المجدليَّة والسيرة الغنوصيَّة القناع الأول الذي يتخفى خلفه وجه الموضوع الأساسي وهو الاغتراب داخل حدود الوطن وتوثيق جزء من تفاصيل الحياة اليوميَّة في الأزقة الفقيرة لمخيم اللجوء الفلسطيني في مدينة رام الله ومعاناة سكانه، باستدعاء شريط الذاكرة لمراحل الطفولة والصبا، فضلا عن التصوير اللحظي للمكان.
اعتمد الراوي البطاقة الصوتيّة المرقمة وسيلة تسجيليّة مؤرخة متسلسلة لتبادل المواقع بين السارد العليم والسارد الذاتي «نور مهدي الشهديّ» الذي يُسمح له بطرح تصوراته الشخصية حول الموضوع، ونقد هذه التصورات والتشكيك بصحتها، يعقب كل انتقالة مقطعيّة حواريّة، انتقالة مقطعيّة زمنيّة يعود من خلالها إلى الحاضر، نقطة البداية ومكان الحدث الأليف حينا، المعادي أحيانا أخرى بما يتضمنه من شخوص وموجودات وأحداث، محاورًا الغائب الحاضر في سجون الاحتلال رفيقه «مراد».
تمثل شخصية مراد ـ الذي اعتقل ظلمًا ـ في النص قناعا تبريريا لشخصية نور وانعكاسا صوريا لشخصية مؤلف الرواية الأسير باسم خندقجي الذي كتب روايته داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي.
يتجلى الحضور المجدلي بوصفه جامعًا للثنائيات المتناقضة كالخير والشر، الخطيئة والتوبة، الملاك والشيطان في معناها الحرفي. والشك واليقين في المعنى الملتبس خلف الأقنعة. وتتصدر ثنائية الموت والولادة بمعناها المجازي كنتائج حتميّة لأحداث مرت بها الشخصية، فوفاة والدته بعد ولادته موت، وتولي جدته تربيته ولادة، اعتقال والده وحرمانه منه، والخذلان الذي تعرض له من رفاقه في المقاومة موت، ذاكرته الحيَّة بمخزونها الفجائعي موت، ومغادرة المخيم ولادة، صمت والده موت، نجاحه من المرحلة الثانوية وانعتاقه من سلطة أبيه الصامت ولادة، اعتقال رفيقه مراد موت، وتبادل الرسائل المشفرة مع مراد ولادة، الالتباس القناعي بين شخصية نور اللاجئ الفلسطيني بملامحه الأشكنازية، وأور المواطن الصهيوني موت وولادة.
أما شخصية أور أو أورا فتعود إلى الهوية الزرقاء الخاصة بالمستوطنين الإسرائيليين التي عثر عليها نور في أحد جيوب معطف اشتراه من سوق للملابس المستعملة، يقرر نور استخدام الهوية لخوض مغامرة خطرة هدفها البحث والتحري في سهل قرية اللجون المهجرة، ومستوطنة مجدو بيئة رواية مريم المجدليَّة.
يأخذ الحوار الجدلي بين نور وقناعه الأزرق حيزا مهما في الرواية، متخذا في العديد من المواقف منحى المواجهة والتحدي. يسأل نور قناعه (أور) بعد أن هدد الأخير بكشف سر هويته قائلا: هل أنت صهيوني حقا؟ أم يهودي فحسب؟
يؤكد الكاتب على لسان بطله أن مشكلة الفلسطيني ليست مع اليهود، بل مع الفكر السياسي الصهيوني، فيلجأ في مواضع إلى عقلنة المواجهة، محولا مسارها إلى نقاش يتبنى وجهتي نظر مختلفتين يحاول كل طرف تعزيزها بالحقائق التاريخيّة بأسلوب لا يخلو من الدعابة. وفي حوار آخر يحاول تبرئة ساحة المواطن الإسرائيلي المدني من تهمة قتل أو تشريد الشعب الفلسطيني، وإن الانفصال بين الهويتين صعب ما دام هناك هوية متحكمة وأخرى خاضعة، وما دام هناك مركز وهامش.
لكن خيار التمرّد والثورة على الهوية المتحكمة يبقى قائما، وهو ما تجلى في ثورة نور على قناعه في لحظة غضب، خلعه متعمدا ليكشف عن هويته الفلسطينية أمام الوفد السياحي الأمريكي الذي كان يرشده إلى أطلال قرية «صرعة» المهجرة حين استفزه تزييف أصل المكان، وطمس هويته الحقيقية من قبل سلطة الاحتلال الصهيوني.
يفاجئنا السارد العليم بعد جدال شرس بين نور وقناعه بموقفه المحايد من هذا الصراع، بل ويحاول إقناع القارئ أنه مثله تماما لا يعرف ما سيقدم عليه نور وما خطوته التالية، مستغربا حالة الالتباس التي يعيشها خاتما قوله بسؤال يثير فضول القارئ.. إلى أين يمضي الآن؟