ماذا لو عاش ماركس قرناً كاملاً؟

منصة 2024/05/08
...

 نوزاد حسن

(1)
 هل جاملت الحياة كارل ماركس حين رحل عن العالم في عام 1883؟، لكن هل حقا أن الحياة بنظامها الصارم تجامل البشر، وتمنحهم فرصة للهرب قبل اكتشاف أن أفكارهم لا تنطبق على الواقع، أو حين يعرف الثوار أنهم ساروا خلف خريطة فكرية لإنسان متأمل لم يضبط اتجاهات هذا العالم جيدا.
في الحقيقة أنا أصر على أن كارل ماركس كان محظوظا حين رحل في عامه السبعين، ولو أنه عاش 30 سنة اضافية لبلغ عمره 100 عام، أي قرن من الزمن. ومن يستطيع أن يتخيل ماركس وهو يسير ببطء، وقد حمل على اكتافه عبء قرن كامل.
ربما يظن الكثيرون أن الحكمة والفلسفة علاج سحري لمواجهة الخرف، والشيخوخة.
وفي الواقع كانت تجربة «كانت» دليلا جيدا على ضعف هذا الكائن - الإنسان. ضعف يقوده الى النهاية والتلاشي. لكن حكاية ماركس هي أكثر تعقيدا من حكاية أي مثقف آخر، ولا أبالغ لو قلت أن حياة ماركس معقدة الى حد بعيد، وتستحق أن تدرس، كما أن كتبه تفرض علينا واجب قراءتها، وتأملها. وإن كنت لا أشك في أن قراءة رأس المال هي من التجارب الصعبة التي يواجهها أي قارئ.
ما يثير فضولي اتجاه ماركس هو ذلك اليقين الغريب الذي يتمتع به. فليس من الأمور العادية أن أبتر الحياة من بعدها الروحي. وليس سهلا أن أضع المادة قبل الوعي. ثم أعيش في عالم مصمم بطريقة قد لا تنسجم مع هذا الاصرار العقلي على نسيان كل شيء إلا المادة.

(2)
ماركس أنموذج للإنسان الذي عليه أن يكون صادقا مع نفسه، ولا بد أن يواجه العالم بفكره المادي. في إحدى المرات تحدثت مع مثقف مسن وصل إلى عتبة الثمانين عاما، وكان يعمل، ويتحرك برشاقة قياسا الى عمره. وكنت أعرف أنه ملحد متمرس في هذه المهنة. دعوني اسميها «مهنة الالحاد». قلت له: بعد كل هذه السنوات هل ما زلت تعتقد أن العالم من حولنا بدأ بدودة صغيرة الى أن تطور وصرنا على ما نحن عليه. قال بثقة: نعم. سألته كيف نستطيع أن نفسر بعض نشاط الروح عند النوم، الرؤيا الصادقة مثلا، من أين تأتي. اجابني: هذه أشبه بهلوسات لا دليل عليها. لم أقم بدور المتدين فأكره هذا الإنسان العجوز لكني حسدته على يقينه. إن أكثر ما أخشاه على نفسي، وعلى الاخرين هو اعتقادهم أنهم يملكون اليقين، وعندهم الحقيقة المطلقة التي لا تقبل النقد. وكان هذا الملحد العجوز من هذا النوع. وقبل عام تقريبا رحل عن عالمنا. وما تزال صورته في ذاكرتي. اصراره، عشقه للعمل، الاهم والأخطر من ذلك: يقينه بأنه أخضع كل شيء لفكرته الملحدة.
من الصعب جدا أن يكون الالحاد مهنة. أعني أن نتحدث عن فكرتنا عن الحياة وكأننا نتحدث عن شيء لا يخصنا. لم يكن ماركس من هذا النوع. في كتاباته نجد ذلك الفكر الذي يريد أن يفسر لنا كل شيء. التطور إلى أين سيمضي، وحال المجتمع الراسمالي الذي اكتشف ماركس أنه سينتهي. قام بدراسة الاقتصاد، وتنبأ بحركة سير التاريخ. كان واثقا من أفكاره جدا. وهذا يعني عندي أنه يجازف ويغامر كأي مغامر قد يتعرض لصدمة تفقده توازنه. لكن ماركس كان يعاني، ولم يكن جسدا ماديا ساكنا مثل آلة معقدة الصنع. وقد أشار في احدى رسائله الى انجلز شارحا له ما يعانيه من ازمة؟ يقول «ارق فقدان للشهية سعال شديد ومعاناة من سويداء عميقة لها سوراتها العنيفة من حين الى آخر على منوال دون كيشوت»(1).
هذا المقطع من رسالة مؤرخة بتاريخ 1 اذار 1882. ويشرح مترجم الكتاب جورج طرابيشي في الهامش ما يقصده ماركس في حديثه بأنه يعاني من سويداء عميقة على منوال دون كيشوت بأنها نوع من «المالنخوليا» ويساعدنا غوغول في معرفة معنى «المالنخوليا، إذ هي متلازمة اكتئابية محددة تتمثل بحالة مزاج سوداوية ودرجة من الحزن العميق والأسى وفقدان الأمل، وعدم القدرة على الاستمتاع بالنشاطات المختلفة. وكان في السابق يطلق على هذه الحالة اسم الاكتئاب، لكن في الوقت الحالي أصبح يصنف ضمن الأنواع الفرعية للاكتئاب».

(3)
هذا التعريف لمشكلة ماركس يعني الكثير بالنسبة لي. إنه اشارة الى رد فعل طبيعي جدا يصدر عن الإنسان الفاني الذى يواجه موته، ومسيره الى النهاية. وقد يكون من غير المنطقي جدا أن يعيش ماركس من دون كآبته التي ذكرها في رسالته الى انجلز. هذه الكآبة تعني أن هناك مرضا نفسيا يشعر به ماركس. وهذا في رأيي هو رد الفعل الطبيعي للإنسان الحقيقي، فالقطط لا تعاني من هذا الاكتئاب الحاد. لكن المشكلة التي تواجهنا هي أن من يتخذون الالحاد مهنة لهم تجدهم سعداء بإلحادهم، ويتحدثون عن إيمانهم المادي وإنكارهم لوجود الاله، وكأنهم يتحدثون عن مشاهدتهم لفيلم جميل. لقد عانى ماركس مما اسميه «بحمى الروح» وإن كان لا يؤمن بأن هناك روحا أو أية اشارة الى ما وراء هذا العالم. وبعد ماركس صار التلاميذ محصنين جدا، وبعيدين جدا عن كآبة استاذهم المزعجة. فالواقع موجود خارج وعيي، وعملية المعرفة هي انعكاس في ذهني. ولا وجود لشيء ما وراء هذا العالم. ومثل هذه الأفكار تصبح خطرا إذا كان حاملها يعتقد أنها هي الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن أن تناقش.
لكن دعونا نفترض أن ماركس عاش قرنا كاملا، وهذا هو ما بدأت به مقالي، ترى ما الذي سيحدث؟
قلت إن ماركس مات عام 1883، فلو أنه عاش ثلاثين سنة أخرى فسيكون عمره 100 عام. أتتوقعون أني أركز على عمر ماركس بلا سبب وجيه. لا. أنا أعني أن ماركس لو عاش قرنا كاملا فسيكون حاضرا في ثورة اكتوبر التي وقعت في روسيا بقيادة لينين. هذا ما أحاول أن أصل اليه. تلك اللحظة التي نزلت فيها الفلسفة الماركسية الى الأرض وأصبحت اداة للحكم. أفكار ماركس وتلامذته اسقطوا القيصر وقتلوه. أنا أتساءل الآن ومن حقي أن أطرح تساؤلي بهذه الصيغة: هل هناك لحظة أجمل عند ماركس من لحظة حدوث ثورة اكتوبر الاشتراكية؟ هل يحلم مثقف حلما أجمل من تحول كلماته الى فعل؟ لا أعرف هل كان ماركس يثق بأنه وتلامذته، وعماله سيغيرون وجه الكوكب؟

(4)
لكن على أية حال فقد تحقق حلم ماركس. إن الثورة الملحدة وصلت الى السلطة. وبدأ الثوار بتقليب أوراق ماركس لرسم ملامح السلطة الجديدة الاشتراكية. وكان لينين متحمسا في تتبع ارشادات فيلسوفه المتأمل ذي الروح الكئيبة. فماذا وجد لينين الثوري الحالم؟ هل عثر على شيء يساعده في عملية الحكم؟
دعوني أقول مرة أخرى إن الحياة جاملت ماركس حين لم تعطه ثلاثين سنة أخرى، ذلك لأن اللقاء سيكون غير سار بين ماركس ولينين. ولا أستبعد أن يوجه لينين نقده لماركس، ويعاتبه لأنه كان يفكر أكثر من اللازم من دون أن ينتبه لحركة الحياة من حوله. أنا أتساءل هل ما أقوله هو مجرد حديث أتخيل حدوثه بين منظر وفيلسوف هو ماركس، وبين ثوري وصل الى السلطة في بلد زراعي يعاني من وضع اقتصادي صعب. أجيب: لا. إنني أتحدث عن قضية لا ننتبه لها في أحيان كثيرة. وقد يقع فيها الفيلسوف ورجل الدين، ورجل السياسة وغيرهم.
لنوضح المسألة قليلا.. يعرف الجميع أن ماركس أسس نظرية فلسفية حاولت أن تفهم الواقع، وحاولت أيضا أن تفسر حركة التاريخ. ويرى أي ماركسي أن ماركس كشف عن قوانين تطور الواقع. وقد سمى بعض منتقدي ماركس فلسفته بأنها فلسفة «تاريخانية». وهذه التسمية فيها سخرية لأن محاولة اخضاع العالم لوجهة نظر فيلسوف شيء صعب وخطير في الوقت ذاته. وهنا تحدث مشكلة مزعجة إذ كيف يمكن أن نصدق إن ثلاثة أجزاء من كتاب ماركس ستجعلنا قادرين على حل كل مشكلات واقعنا. من وجهة نظر لينين كان ماركس ملهما وقادرا على حل كل مصاعب الحياة. هذا قبل أن يصل إلى السلطة. قبل السلطة كان الفكر النظري لماركس عميقا، ورائعا لكن بعد أن صعد لينين لقيادة روسيا حدثت المفاجأة. واجه لينين شعبا يحكمه، شعبا عاش لقرون ضمن نظام حكم اسقطه الشيوعيون، ثم حاولوا أن يقيموا نظاما آخر مكانه. هل هذه مهمة سهلة؟ أنا أتحدث هنا عن حياة الناس البسطاء التي تتعلق بعملهم ورواتبهم، وقضايا زواجهم وميراثهم ونظامهم التعليمي، أتحدث عن الحياة بكل احتياجاتها اليومية المباشرة. لقد فكر لينين أول ما فكر فيه هو البحث في كتب ماركس عن قضايا تخص المواطن البسيط، عما يحتاجه كي يعيش بكرامة بعد اسقاط القيصر. قلّب لينين كتب ماركس، وبحث فيها جيدا. وهنا وجد لينين نفسه مع أغرب ما يمكن أن يتعرض له زعيم ثوري. لنقرأ «وكما أعترف لينين لا توجد كلمة بشأن اقتصادات الاشتراكية في أعمال ماركس باستثناء شعارات عديمة الجدوى مثل خذ من كل حسب قدرته وأعط لكل حسب حاجته»(2)

(5)
في الحقيقة لم أنقل بالتفصيل بحث لينين وإجراءاته الشخصية في ما يتعلق بإدارة السلطة، وتنظيم القوانين، لكني أردت أن أوضح الموقف المحرج الذي وجد لينين نفسه فيه. ومثل هذا الموقف ينطبق أيضا على كل الأفكار الشموليّة التي تظن انها تملك الحقيقة المطلقة التي لا حقيقة غيرها.
ما يمكن أن نستنتجه من تجربة لينين هو الآتي: الواقع أكثر تعقيدا مما نظن، وتجارب الآخرين خاصة بهم، وعلينا أن نحترمها.
لكن، هل يمكننا تخيل وضع لينين، وهو يجد أن أفكار ماركس لم تقدم له عونا بعد أن وصل الى السلطة. لذا قلت إن الحياة جاملت ماركس إلى أبعد حد، ومنحته فرصة للمغادرة قبل أن يلتقي بالرئيس لينين، وإلا كان الموقف لا يطاق بينهما. سيقول له لينين: أنت تفلسفت كثيرا لكننا معنيون الآن بحياة الناس وكيفية تنظيمها. لم تقل كلمة عن واقع الجمعيات التعاونية، ولم تأشر إلى أية خطط اقتصادية. أنت منظر يا ماركس، ومن الأفضل أن نبدأ من جديد.
هذا الحوار لا بد كان سيقع لو عاش ماركس قرنا كاملا، ومع ذلك سيفكر ماركس بصورة أكثر عملية ولا أعرف إن كان ذهنه قادرا على التفكير العملي بعد شوطه الكبير في التأمل والتفكير. هذا يعني أن كتب ماركس قبل ثورة اكتوبر هي غير كتبه بعد الثورة. بعد الثورة لم يقدم فكر ماركس أية اضافة إلى الحياة العملية، وهذا في اعتقادي دليل على أن أية فكرة مهما كانت جميلة ستجد نفسها في الجحيم إن اقتربت من الواقع. وتخيلوا معي كيف أن كتب ماركس كلها لم تقدم أي حل بعد تسلم لينين للحكم. أنا اؤكد على هذه القضية لأنّها كما أظن مدخلا مهما لفهم تاريخ الفكرة، وتاريخ فقدانها للصلاحية إن جاز القول.
لم يقف الأمر عند قضايا الاقتصاد وكيفية تنظيم الحياة التي واجهها لينين عند بحثه في كتب ماركس عن حلول عملية للحياة بعد الثورة. لقد كانت هناك مشكلة أخطر بكثير أشار اليها المفكر فالح عبد الجيار حين تحدث عن ماركس، ولأن الدكتور فالح عبد الجبار معنيّ جدا بالدولة، والأنظمة السياسية فقد توصل الى حقيقة غريبة تكاد تصل الى حد الكفر عند الماركسيين. يقول عبد الجبار في الأسطر الأولى من كتابه ما بعد ماركس «هل هناك نظرية مكتملة عند ماركس عن الدولة؟ أعلم بيقين تام أن مجرد التفكير في طرح السؤال عن وجود نظرية محددة عن الدولة لدى (ماركس وانجلز ولينين) سيكون له وقع جارح وربما يؤخذ بمنزلة الهرطقة)(3).

(6)
لن أتوقف عند كلمة هرطقة كثيرا، فهذه الكلمة تعني أن الفكر الماركسي لا يسمح بالنقد أو اثارة شكوك نقدية. على أية حال إن طرح مثل هذا السؤال عن عدم وجود فكرة لدى ماركس عن بناء الدولة يزيد من حجم المشكلة التي تواجهها كتابات ماركس أو طريقة تفكيره.
في الحقيقة كل هذا حدث لأن الماركسية وصلت الى السلطة باسم أفكار ماركس، ولو أن الثورة الروسية لم تقع لما أحس لينين وأيضا فالح عبد الجبار بهذه الفجوة بين فكر ماركس، وبين الواقع.
لكن فالح عبد الجبار يمضي بعيدا لتفصيل قضية الدولة، وعدم وجود اشارة لها عند ماركس. وبطريقة احصائية بسيطة فيها قليل من السخرية يصل الدكتور فالح عبد الجبار إلى أن ما كتبه ماركس عن الدولة لا يزيد عن 45 صفحة من القطع المتوسط.
يقول فالح عبد الجبار»ها نحن أمام حساب بسيط 45 صفحة من 52 مجلدا»(4).
لدينا إذن محاكمة جديدة يضعها المفكر فالح عبد الجبار أمامنا، وينشر أوراقها امام الجميع.
إن الفيلسوف الذي تنبأ بحركة التاريخ، وزوال الرأسمالية لم يكن لديه أية نظرية عن الدولة، وكل ما تحدث عنه هو الجانب الاقتصادي مع بعض كتابات الشباب.
أما الدولة التي تعد هي الركن الأهم فليس لدى ماركس أية أفكار واضحة عنها.
ومن الممكن أن يكون طرح فالح عبد الجبار محرجا للماركسيين جدا، ويشبه إلى حد كبير بحث لينين في كتابات ماركس الذي تحدثت عنه، لكن ما قاله المفكر فالح عبد الجبار يعد نقدا قاسيا إذ لا يمكن أن يكون التأمل الفلسفي الماركسي ضعيفا الى حد عدم وجود اشارات واقعية عن كيان مهم ومعقد كالدولة.
لذلك أجد أن حيرة المفكر فالح عبد الجبار لا تختلف كثيرا عن حيرة لينين. لقد اشترك كل منهما في مواجهة حقيقة مقلقة هي: الفكر الفارغ من الواقع.
واكتشاف هذه الحقيقة أي حقيقة الفكر الفارغ من الواقع يعد في نظري صدمة كبيرة حدثت عند الماركسي، وتحدث عند الفكر الديني والقومي، وأي فكر آخر يحاول أن يخضع الحياة لمنطق العقل الجاف.
كل فكرة تولد ستصنع حاجزا بين الناس.
وقد صنع ماركس أفكارا كثيرة، وصنع غيره أيضا أفكارهم. وعند اللحظة الحاسمة سيكون للواقع كلمته.
وأنا أظن أن الفكر الفارغ من أي واقع هو فكر خطير جدا، وسيكون مكلفا لحياة الناس. لأن للواقع كلمته وشروطه، ولأن الإنسان كائن ذو احتياجات كثيرة.
وتأجيل هذه الاحتياجات ووضع أفكار عنها هو الخطر الذي سيقود لمشكلات كثيرة.

****
1 - ماركس وانجلز، الماركسية والجزائر، ترجمة جورج
  طرابيشي، دار الطليعة،1978 ص85
2 - كارل بوبر المجتمع المفتوح واعطاؤه، ترجمة حسام نايل، التنوير، 2015، ص 341
3 - فالح عبد الجبار، ما بعد ماركس، دار الفارابي، طبعة اولى، 2010، ص9
4 - مصدر سابق ص 13.