عزيز ملا هذال
البشر بحاجة دوماً عبر علاقتهم مع بعضهم البعض إلى ترك مسافة أمان تشبه تلك التي يتركها سائقي السيارات والمركبات في الشوارع، فإذا ما قلّت المسافة يمكن أن يحدث طارئ يدفع أحدهم إلى الوقوف المفاجئ فيسبب بذلك اصطدام ينتج أذى كبيرا له ولمن معه، أما اذا كانت المسافة مناسبة إلى حد ما فبالإمكان التوقف وتلافي الاصطدام.. هذه القاعدة أراها تنسحب على علاقتنا الاجتماعية وتضبطها وتحفظها من التضعضع والانفراط بعد جهود كبيرة انفقت في سبيل بنائها.
في سياق الحديث عن مسافة الأمان وضع الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور نظرية حول العلاقة الإنسانيَّة اسماها "معضلة القنفذ"، أي أنه عندما تتجمع القنافذ معاً غاية في الدفء خلال فصل الشتاء، فإن كل واحد منهم قد يقوم بوخز الآخر عبر أشواكه، مما يضطرهم إلى الابتعاد عن بعضهم البعض، لكن هذا الابتعاد سيشعرهم بالبرد القارس، الذي سيقودهم إلى الاقتراب من بعضهم مرة أخرى، ثم يحدث الشيء نفسه مراراً وتكرارا، وفي النهاية سيكتشفون أن أفضل ما يمكن فعله هو البقاء على قيد مسافة صغيرة من بعضهم.
مسافة الأمان في العلاقات الإنسانيَّة هي مسافة شعوريَّة ومعنويَّة ولا تقاس بمسافات كالمتر أو السنتمتر، وعادة ما نعمد إلى أن نضعها نحن أو المقابل غاية في تحديد طبيعة العلاقة ومدى متانتها، فقد تكون قريباً من بعض الأشخاص قرباً مادياً، ولكن المسافة المعنويَّة تتسع في ما بيننا، فالعلاقات لا تقاس بمدى القرب الذي قد يضر أكثر ما ينفع، لذا من الواجب الاحتفاظ بمسافات كفيلة بحفظ الود والحب بين أطراف العلاقة بكل تفصيلاتها.
دائما ما كنت أنتقد بعض الزملاء والأصدقاء نتيجة دخولهم السريع في علاقات أراها عاطفيَّة أكثر مما هي عقلانيَّة، إذ أن أياماً قليلة كفيلة بوصولهم إلى مستويات بعيدة من العلاقة فبدو وكأنهم يعرفون بعضهم البعض من أعوام طويلة، وبعد الاقتراب أكثر تبدأ عيوبهم بالظهور في ما بينهم بشكل واضح تدريجيا، ومعها تظهر المشكلات وينفرط العقد ويصبحون وكأنّهم من الخصوم أو الأعداء.. لذا كنت وما أزال أفضل ألا أتسرّع في الاقتراب حتى من الذي يهواهم القلب، حتى أتأكد من صلاحيتهم وملائمتهم لطبعي واختياراتي.. وهذه هي مسافة الامان الضروريَّة لإدامة العلاقات الإنسانيَّة بكل صنوفها.
وعادةً ما تختلف المسافة من شخص لآخر، ومن علاقة ما إلى أخرى.. فالعلاقات العائليَّة أطرافها أناس مرتبطون بهم روحيّاً وعقليّاً، لا يمكن أن نضع مسافة كبيرة فنختصرها إلى أضيق حد ممكن، وهكذا تتسع المسافات بدرجات متعددة وصولاً الى المسافات الكبيرة كتلك التي في العلاقات الرسميَّة أو السطحيَّة الجديدة التي قد تتقلص مسافة الامان معها بسهولة، لكن هذا الأمر يكون بعد التمحيص والمعرفة الواعية والثقة فيها وفي أطرافها.
ولكن.
كيف يمكن أن نترك مسافة أمان؟، عادة ما تكون مسافة الأمان التي نتركها في علاقتنا الإنسانية بصورة عامة لها الكثير من المردودات الايجابية منها أن تبقى مسافة تخفف حدة الارتطام إن حدث، فلا بد لك أن تبدأ علاقتك بالآخرين بصورة رسميّة، لا سيما أن البدايات كثيراً ما تكون خادعة وجاذبة، وحين تهدأ الامواج ستميز الجواهر من الحصى، وعندها عليك أن تتخذ القرار المناسب أفضل من أن تقودك العاطفة إلى حيث لا تهوى، وحينها يجب التصحيح الذي ليس هيناً لا سيما مع رغبة للقلب ورفض للعقل، إذ سيستمر هذا الصراع ومن ثم سيحدث انعدام للتوازن.
ومن الأهمية بمكان ما ألا تقحم نفسك في خصوصيات الآخرين مهما كان قربك منهم أو بعدك، إذ لا ينبغي أن تسأل عن بعض الأمور أخلاقيا، لأنك في المقابل ستسأل وبذا تفقد خصوصيتك نتيجة هذا الاقتراب غير المبرر الذي قد يحرجك ويحرج من حولك، لهذا يفضل ألا تبرر هذا التدخل بذريعة أنّه "أخ، أب، أم" وغير ذلك من المقربين لان لديهم ما يحتفظون به لأنفسهم، وربما لا رغبة لهم بإطلاعك أو معرفتك والعكس منطقي وصائب.
وإن رغبت في الحصول على علاقات ناجحة ومتوازنة وبعيدة المدى أترك مسافة أمان بينك وبين طرف العلاقة الآخر، كي لا تضطر إلى الغائها في وقت ما، فلا اقتراب حد الاحتراق، ولا ابتعاد حد الافتراق.. وهكذا تدوم الحياة ويدوم معها الأمن النفسي
والاتزان.