هل نحن مهدَّدون بالزهايمر الاجتماعي؟

منصة 2024/05/21
...

 رضا المحمداوي

اِنفرد مسلسل (العائلة ×) لمؤلفهِ ومخرجهِ علي فاضل، وسيناريو وحوار لثلاثي الورشة المكونة من «مهيمن المالكي ومصطفى بهجت وفكرت سالم» عن بقية المسلسلات ذات الطابع الاجتماعي بخصوصيَّة واضحة في تناول الظاهرة والجدية الواضحة في طرحها مع الحرص على الإتيان بنماذج وشخوص جسّدتْ بمجملها الأطراف المتباعدة للموضوعة الاجتماعية وقدَّمتْ مشهداً بانورامياً بطبيعة متأزمة.
ويؤازر هذا التوجّه على صعيد التأليف والحوار والتناول الدرامي العام أسلوب إخراجي فيه العديد من عناصر وأدوات فنية مستحدثة تغادر التقليدي في السرد الفني لتعتمد أسلوباً مغايراً يتسم بالمشاكسة والتعويل على إيقاظ الذائقة الساكنة للمتلقي.
ومنذ اللقطة الاستهلالية الأولى التي سبقتْ بداية الحلقة الأولى نواجه عالم الانترنت و»السوشيل ميديا» ومقاطع الفيديو، وقد استخدمها المخرج لتكثيف واختزال الزمن والأحداث والإشارة إلى موت الزوج، فضلا عن وضعنا مباشرة في جو اجتماعي عام ستدور وتتحرك فيه الشخصيات والأحداث، وقد تكرّرَ هذا الاستخدام مع بداية كل حلقة من المسلسل، وأصبح بمثابة التمهيد للموضوعة الاجتماعية الرئيسة التي تتمثل بما بات يعرف فنيّاً بأنّه دراما صراع لأجيال تخوض في مشكلات النشء الجديد من الفتيان والمراهقين والشباب، وما تعاني منه الأسرة العراقية من تحديات وصعوبات وهي تواجه متغيرات وتحوّلات تركتْ آثارها واضحة في طبيعة العلاقة المتأزمة بين جيل الآباء والأبناء عبر مفاهيم مثل الحرية المنفلتة من دون قيد أو حساب التي تصل إلى حالة التسيّب مع عدم الشعور بالمسؤولية والعيش الخادع بين الأكاذيب والأوهام وغيرها من مفاهيم الجيل الجديد.
وداخل صراع الأجيال الذي تجسَّدَ لدينا عبر شخصية الجد «هيثم عبد الرزاق» وأبنائه «مريم- جمانة كريم»، و»غازي- يحيى إبراهيم» مع مجموعة من الأحفاد والشباب استحضار قيم واعتبارات التربية المحافظة السابقة لدى الجد وأبنائه ومقارنتها مع مفاهيم واعتبارات جديدة سائدة لدى الأحفاد. والظاهرة الشائكة والمعقدة لعوائلهم الغنية منها والتي تتمتع بالحرية تتساوى مع الفقيرة بتربيتها المحافظة، لكن النتيجة تبقى واحدة تتمثل بالفلتان الأخلاقي من دون ضوابط أو التزامات والانخراط في علاقات غير مستقيمة وصداقات مشبوهة تنتهي بإدمان المخدرات أو الموت أو الانتحار والسلوك المنحرف. ولا يتورّع هذا الجيل من فضح أسرار الأسرة وهتك خصوصيتها وإفشاء خفاياها ومحاولة تشويه شخصية الأٌم والأب والتقليل من شأنهما والحط من قدرهما.
وقد تمَّ ترميز هذا الانحلال الأخلاقي لدى الجيل الجديد وعدم إيمانه بأية اعتبارات اجتماعيّة عبر مجموعة أو ما يسمى بـ «كَروب العائلة×» الذي تم إنشاؤه على موقع «الفيسبوك» وقاموا بواسطته بشطب وإلغاء وحذف مفهوم العائلة وقيم البيت وما تمثله من مركزية في التربية والتنشئة مع تنكّر تام للأبوة والأمومة العائلية والتي من المفترض أن تكون حاضرة لدى هذا الجيل، وهم يشقون طريقهم وسط العديد من التحديات، وقد أحسن المسلسل في اختياره لعنوانهِ من هذه التسمية المطلقة في مواقع التواصل الاجتماعي.
وعبره استعراض نماذج العائلات وأفرادها من الجيل الناشئ بدا لنا هذا الجيل نافراً، متمرداً، ومنلفتاً وصعب المراس ولا ينقاد بسهولة ويرفض الوصاية والنصيحة العائلية، ويريد أن يعيش حراً من دون قيد، وهو بذلك أقرب إلى الضياع منه إلى الحريّة، لأنّه لا يعرف ماذا يريد ولا يكترث بما يترتب على تصرفاته وسلوكه العام، وبما يقوم به خارج سيطرة العائلة والبيت واعتباراتهما مع غياب تام وكامل للمدرسة أو الجامعة أو التحصيل العلمي لهذا الجيل وطموحاته المستقبلية.
وقد يبدو حادث اختفاء «زيد- الممثل علي فاخر» أمراً عادياً ضمن مجريات الواقع العراقي الجديد، لكنه يصبح بمثابة المسبار الذي يدخل أعماق مجتمع يمور بالحركة والتغيير والتحوّل الدائم، ليكشف عن مجموعة العوائل تباعاً.
ونبدأ من عائلة الأرملة الشابة «مريم» وما تعانيه في سبيل لقمة العيش بإدارتها لمعملها الصغير وما تلاقيه من صعوبة في تربية أبنائها «زيد» و»روان- الممثلة سارة أوس» التي لا تقلُّ عناداً عن أخيها في التعامل الجاف مع أمها، وذلك قبل أن يدخل الحبيب السابق «نور- مهند ستار» حياة الأُم ويطرح عليها فكرة الزواج من جديد.
وأقرب العوائل التي يتم الكشف عنها هي عائلة «غازي» ومعاناته بسبب اصابة زوجته «رفل- اسراء رفعت» بالكآبة الحادة وعلاقتها المتوترة مع ابنتها «نيران- حنان سمير» لكن الموقف الأكثر تأزماً ينكشف بانضمام الابن «فهد- مهيمن هاني» المُلقّب بـ «لوفي» إلى كَروب «العائلة ×» ووصوله إلى مرحلة تعاطي المخدرات.
وبواسطة امتدادات البناء الدرامي الأفقي للمسلسل عبر تتبع خيوط الشخصيات المنضوية لل «كَروب» تنبثق خطوط ومحاور درامية متعددة، فمن خلال «داليا- أساور عزت» ننتقل إلى عائلتها المكونة من أبيها «طارق - ماجد درندش»،  وأمها «جيجي- آلاء نجم» وتفككها الأسري.
ومن خلال شخصية «آلاء- ثريا هاشم» ننتقل إلى عائلتها المتكونة من زوجة أبيها المتسلطة «سهام- شاهنده» وأبيها «أوس فاضل» بشخصيته المُستلبة والمهزوزة، وكذلك الحال مع «سديم-مصطفى اياد» الذي ينقلنا إلى أبيه «كمال نور الدين- جرير عبد الله» المثقف الفارغ بجسده الضخم وباطنه الأجوف، حيث الخواء الفكري من أيّة قيمة اعتبارية وفشله حتى في إقامة علاقة طيبة مع ابنه المراهق الذي سرعان ما انزلق في طريق أفكار التشدد الديني المتطرف.
ثمة محاور ظلتْ ملتصقة بالمسلسل من الخارج، ولم ترتبط به عضوياً مثل محور»نصير- أثير كشكول» الذي وإن بدأ مع بداية المسلسل، لكنه انفصل عن هيكله واستقلَّ بأحداثه من دون أيّ ترابط عضوي معه، لكنَّهُ من جانب آخر شكَّلَ مع «جيجي» و»مينا- طيبة غسان» نماذج للمحتوى الهابط السائد في مواقع التواصل الاجتماعي، في حين ازداد محور «ياسمين- رفل نشمي» ابتعاداً عن المسلسل بتركيزه على موضوعة التنمّر بسبب سمنتها.
الجانب الفني الجدير بالتوقف عنده هو اعتماد المخرج على نمط سردي جديد فيه العديد من عناصر الجدة والحداثة على سبيل التجريب وكسر قيود السرد التقليدي ويقوم أساساً على أسلوب فني فيه العديد من حالات التقديم والتأخير والقطع للسرد الفني مع خلط الأزمان والأحداث وإرباك سير وسياق الفعل الدرامي، ويلجأ المخرج هنا إلى العودة في الأحداث إلى الوراء أو التذكير بما حدث سابقاً أو يقطع السرد الصوري بلقطات سريعة وقصيرة من مشاهد متعددة، ومن ثم العودة إلى السرد التقليدي.
وثمة مؤاخذات وضعف عام وعجالة درامية وإخراجيَّة أصابتْ العديد من مجريات الأحداث الرئيسة في المسلسل. وأذكرُ منها إهمال وعدم متابعة عملية إلقاء القبض من قبل الشرطة على «لوفي وهندي» ووجود المخدرات في شقة الشباب. خاتمة المسلسل قاسية ومؤلمة حيث إصابة شخصية الجد الذي يمثل بعض ملامح الذاكرة الثقافيَّة للأجيال بمرض الزهايمر ونسيان تجارب الحياة.. فهل الأجيال الجديدة مهددة الإصابة بـ “الزهايمر” الاجتماعي ونسيان الإرث العائلي؟